دمشق - سورية 24
البحث في كيمياء القصيدة العربية المعاصرة، واكتشاف عناصرها وتفكيكها بالشكل النقدي الصحيح، ليس عملية سهلة بالتأكيد، وذلك نظرًا لتشعباتها التاريخية والفكرية وأيضًا بسبب تضارب التفسيرات عند النقاد حيال الظروف الموضوعية والنفسية التي أنتجت القصيدة الحديثة ومدى تأثرها بالغرب وانسلاخها عن جلدها الحقيقي.. في كل هذا يبدو العنوان الذي اختاره الدكتور عابد إسماعيل لدراسته النقدية الجديدة "جماليات المتاهة – قراءات نقدية في الشعر العربي المعاصر"، منطقيًا جدًا، فهو في هذا الكتاب يحاول تفكيك كيمياء القصيدة كمصطلح مجرد، ثم يدخل في كينونتها المحلية وينزع عنها تأثيرات الثقافة الغربية كي تبدو مثل نبتة برية بلا تشذيب أو فيتامينات اصطناعية أثرت في مآلاتها النهائية وجعلتها رجراجةً غير ممسكة بزمام الشكل والمضمون على نحو كافٍ..
ترف المؤلف، بدايةً، بأن التيه هو وطن الشاعر، وربما ذلك نابع من حقيقةٍ تقول إن "اللغة في حد ذاتها خيانة للمعنى، لأنها مجازية تحتمل الشيء ونقيضه"، وتاليًا فإن التماهي بين صانع الكلمات أي الشاعر، وصناعته التي يستمدها من المعجم، يعد نتيجة طبيعية ليس في الشعر العربي وحسب بل في الشعر العالمي الذي مرّ في مراحل ضبابية وتحولات فرضتها الحروب والانقلابات وتبدلات الوعي في كل حقبة.. نعم، نحن مدينون للمعري في القصيدة الفلسفية، ولأبي تمام في البلاغة، وللنفري في الاجتزاء والتكثيف، مثلما نحن مدينون لإليوت وستيفنس وريلكه، لكن السؤال المحوري هنا هو: لماذا لم تنجز القصيدة العربية فرادتها المتوقعة عالميًا برغم أن الشعر ديوان العرب وهو سجلُّ تاريخهم وفخرهم وآمالهم؟. فنحن اليوم لا نعثر على أبي تمام والمعري والنفري بشكلهم المعاصر القادر على التأثير في الثقافة الغربية، وقد يعود هذا إلى استقالة العرب من مهامهم التاريخية على صعيد الحضارة البشرية وتحولهم إلى مستهلكين لما ينتجه الآخرون ما ترك أثره البالغ على الحياة العربية وفي مقدمتها القصيدة الحديثة!.
يفرد المؤلف بحثًا خاصًا لقصيدة إليوت الشهيرة "الأرض الخراب" المكتوبة سنة 1922 ويحاول اقتفاء أثرها في الحداثة العربية، لكنه يصل في النهاية إلى نتيجة تقول: إنه وبرغم الجهود الجبارة التي بذلها النقاد حيال هذا النص الإشكالي، إلا أنها بقيت عصيّة على التفكيك السليم الذي اختلف بتعدد القراءات والترجمات التي وضعها كتاب شهيرون مثل لويس عوض وإحسان عباس وعبد الواحد لؤلؤة ويوسف سامي اليوسف.. أما بالنسبة للشعراء، فقد بقيت الدروس الجمالية لهذه القصيدة العالمية مقفلة أمامهم في حين انشغلوا بتقليد روحها التشاؤمية فقط!.
هذه القراءة التأسيسية لكيمياء القصيدة وأثر الثقافة الغربية، تبدو ضرورية بالنسبة للناقد اسماعيل قبل الولوج في تجارب شعرية عربية اختارها من عدة دول هي سورية ولبنان وفلسطين والعراق وعُمان والسعودية والبحرين والمغرب والأردن وتونس وليبيا، فالخريطة الجينية للشعر العربي في هذه الدراسة، تسير وفق خط بياني شديد التعرج والصعود والهبوط، وخاصة من الناحية الإبداعية ومستوى نضوج القصيدة عند الشعراء المتخذين كنماذج للبحث، وأيضًا من جانب الفئة العمرية التي جمعها الشاعر عندما أتى بأدونيس وسليم بركات ونزار قباني والماغوط، إلى جانب آخرين لم يشكلوا ظاهرة في الشعر أو لم يؤسسوا لملامح مدرسةٍ ما في الكتابة الحديثة، وربما يعود ذلك إلى حرص الناقد على مسألة التنوع في الفترات التاريخية ومستوى التجارب كي يتمكن من الإمساك بتلابيب القصيدة العربية من جميع النواحي إن أمكن، لكن في الوقت نفسه، فإن اقتصار البحث الخاص بتجربة أدونيس على خمس صفحات في هذا الكتاب يعد غريبًا خاصة إذا قسنا دور النص الأدونيسي في تبدلات القصيدة العربية وفي مقولاتها النقدية والفكرية على حد سواء.. لكن ورغم ذلك، فإن الناقد يعبر بمهارة إلى النص الأدونيسي في ديوان "تنبأ أيها الأعمى" الصادر عن دار الساقي عام 2003، فيعقد مقارنة بين السيد بروفوك في قصيدة "الأرض الخراب" للشاعر إليوت، ويستحضر قوله: "أنا لست نبيًا.. لا.. لست الأمير هاملت ولم أولد لأكونه.."، ثم يعود إلى من يسميه الرائي في قصيدة أدونيس والذي يقول: "لستُ جلجامش ولا يوليس.. لا ذاهب ولا عائد.. ومن لي أن أكون نبيًا؟". على هذا النهج، يكتشف الناقد علاقة القصيدة عند أدونيس بأندريه بريتون ورامبو ودانتي، وتلك نقطة تؤكد حيرة القصيدة العربية حتى اليوم وترددها في رسم ملامحها الخاصة، رغم الإقرار بتمكن أدونيس من "إضافة وتر جديد إلى قيثارة أورفيوس الساحرة" كما يقول!.
بعد دراسة معمقة لعدد كبير من شعراء العربية، يتأكد الناقد اسماعيل من أن هناك خللًا قد أصاب المصطلح الشعري، منذ اللحظة التي خلطت فيها نازك الملائكة بين الشعر الحر والشعر التفعيلي، مثلما يجري اليوم الخلط بين الشعر الحر وقصيدة النثر، فشعر التفعيلة، وإن تمرد على وحدة البيت الشعري، إلا أنه لم يخرج على التفعيلة وهنا مكمن اختلافه عن الشعر الحر الذي يعني أن القصيدة فيه لا تسير وفقًا لبحر محدد.. كما يشير مؤلف الكتاب إلى مصطلح آخر تعرض للخلط مع مصطلحات أخرى وهو الشعر المرسل الذي يعتمد الأوزان لكن من دون الالتزام بالقوافي، فتلك القضايا الإشكالية نقديًا، جعلت القصيدة العربية تسير على غير هدى في تلمس مسارها وموقفها من الوزن والإيقاع الداخلي وأسلوب الكتابة بشكل عام..
يعيد هذا الكتاب إشكالات القصيدة العربية إلى الواجهة، فالناقد عابد اسماعيل يجمع الإبداعين معًا، الشعر والنقد، ولذلك فإن مهارته في الولوج إلى دواخل نصوص الآخرين، لا تقل أهمية عن مهارته في صناعة النص الشعري الخاص به، وربما لأجل كل هذا، فإن الكتاب يعد مبحثًا نقديًا عالي الأهمية بالنسبة إلى الثقافة العربية بشكل عام..
الكتاب: جماليات المتاهة– قراءة نقدية في الشعر العربي المعاصر
المؤلف: الدكتور عابد اسماعيل
فد يهمك ايضا:
اختتام الدورة السادسة لـ"مؤتمر المكتبات" بمُشاركة 22 مُتحدّثًا في معرض الشارقة الدولي
شهلا العجيلي ارتبط اسمها بمدينة الرّقة وقدَّمت معاني الحبّ والجسد بلا تحفّظات
-
أرسل تعليقك