ليست إمارة موناكو الدولة الأكثر كثافة سكّانية في العالم فحسب، بل هي الوجهة السياحية الأغلى حسب منظمة السياحة العالمية، والأكثر أمنًا وأمانًا، كما تضمّ أعلى كثافة من المواقع والمعالم والرموز الترفيهية التي تجعل منها أحد الأماكن التي تستحقّ الزيارة مرة واحدة في الأقلّ.
وموناكو هي ثاني أصغر ثاني دولة مدينة في العالم بعد الفاتيكان، وليست مونتي كارلو عاصمتها كما في الاعتقاد الشائع، بل هي أحد أحياء المدينة التي أسسها الفينيقيون وجعلوها من حواضرهم التجارية حول البحر المتوسط، ثم تعاقب عليها الإغريق والرومان والفرنجة والسلالات التي حكمت أوروبا وتناحرت للسيطرة عليها، قبل أن تستقرّ على صيغتها الحالية في العام 1866 على يد الأمير كارلوس الثالث الذي اشتقّت منه اسمها «جبل كارلو».
اقرأ أيضا:
الكشف عن يختٍ مستقبلي يعمل بالهيدروجين السائل في معرض موناكو
جولة في أهم مناطقها
تقع موناكو على سفح جبال الألب عند أقصى ساحل الريفييرا الفرنسي الشهير، وتبعد 22 كيلومتراً عن مطار نيس الذي نقترح التوقف فيها ليوم أو نصف يوم على طريق العودة من الإمارة. نبدأ زيارتنا بجولة على حلبة سباق السيارات السريعة "فورمولا 1" الذي ذاع صيته في العالم بين هواة هذه الرياضة، إذ هي الحلبة الوحيدة التي تدور في الشوارع المخصصة لحركة المرور العادية وتعتبر الأصعب بين نظيراتها حيث يضطر السائقون باستمرار لخفض سرعتهم إلى أدنى الحدود المسموحة، وتنطوي على مجازفات عالية خاصة عند محاولات التجاوز، موعد سباق الفورمولا 1 في موناكو يصادف في شهر مايو/أيار، لهذا يُنصح بتفادي زيارتها خلال هذه الفترة لكثرة الازدحام وصعوبة التنقّل وارتفاع الأسعار.
بعد جولتنا على حلبة السباق ومشاهدة المواقع التي تحمل أسماء الكثير من أبطال هذه الرياضة، الذين قضوا على هذه الحلبة أو تعرّضوا لحوادث خطيرة عليها، نتجه نحو القصر الملكي الذي يعود بناؤه إلى القرن الثاني عشر، ويفتح أبوابه للزيارات السياحية من مطلع يونيو (حزيران) إلى نهاية أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام.
القصر مبني على طراز عصر النهضة الإيطالية فوق أنقاض حصن قديم لمملكة جنوى. مند نهاية القرن الثالث عشر، أصبح المقرّ الرسمي لعائلة «غريمالدي» التي حكمت الإمارة كأسرة إقطاعية حتى القرن السابع عشر قبل أن تعلن استقلالها.
في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين أصبح القصر محطّ أنظار الأرستقراطيين والأثرياء في العالم، يتابعون احتفالاته ومناسباته التي يتهافت عليها المشاهير من كل الأنحاء. وفي العام 1956 بلغت شهرة القصر ذروتها عندما عقد الأمير الحاكم رانييرو الثالث قرانه على الممثلة الأميركية الشهيرة غريس كيلي التي ماتت في حادث سيّارة على إحدى طرقات الإمارة بعد ذلك بسنوات.
يضمّ القصر قاعات جميلة ومجموعات نادرة من التحف والأعمال الفنيّة الكلاسيكية، وفي قاعة العرش طاولة فريدة من الرخام والخشب، يقال إنها صنعت خصيصاً للعاهل الفرنسي الملك لويس الرابع عشر، ويستخدمها اليوم أمير موناكو للتوقيع على المعاهدات والاتفاقيات التي تبرمها بلاده مع الدول الأخرى. وفي القصر أيضا مجموعة من الرسوم الجدارية والسقفية في القاعات الإيطالية المطلّة على المدخل الرئيسي الذي يتناوب فيه الحرس كل يوم قبيل انتصاف النهار.
من القصر الملكي نتجّه إلى أحد أهمّ المعالم الذي أعطى موناكو شهرة عالمية في مجال العلوم البحرية والحفاظ على البيئة، أنه متحف علوم المحيطات، أو المتحف الأوقيانوغرافي، بمبناه الحجري الضخم الذي استغرق تشييده 11 عاماً فوق شير عالٍ مطلّ على البحر. تأسس هذا المتحف في العام 1910 ويضمّ اليوم أكثر من 4 آلاف من الأجناس السمكية واللافقريّات، إضافة إلى بركة كبيرة لتربية أسماك القرش ودراسة طبائعها، كما يضم مركزاً عالميّاً ذائع الصيت لبحوث العلوم البحرية، أشرف على إدارته العالم الفرنسي الكبير «جاك كوستو» من العام 1957 حتى وفاته في العام 1997.
وفي موناكو متاحف أخرى كثيرة جعلت منها مركزاً ثقافيّاً من الدرجة الأولى مثل متحف الإنثروبولوجيا الذي يعتبر من أهم المتاحف الأوروبية في مجال علوم الارتقاء والتطور البشري، والمتحف البحري الذي تأسس في العام 1993 ويضمّ مجموعة نفيسة من مجسّمات السفن وأدوات الصيد ومعدات الملاحة من عهد الفينيقيين إلى اليوم. ثم هناك متحف النقود والطوابع الذي يعدّ من بين الأهم في العالم، ومتحف السيّارات الذي يضمّ قطعاً نادرة من بينها المجموعة الخاصة التي تملكها العائلة الحاكمة.
الحديقة اليابانية الهادئة هي أيضا من المحطات اللازمة في جولتنا قبل العبور إلى الحي القديم الذي يقوم على صخرة ضخمة Le Rochere، ويرجّح أن بعض آثاره يعود للقرن السادس قبل الميلاد. ويضمّ هذا الحي مجموعة من المباني القديمة من العصور الوسطى، وشوارعه مقصورة على المشاة يحلو التنزّه فيها والتسكّع في مقاهيها الأنيقة ومتاجرها التي تعرض مصنوعات حرفية راقية وتذكارات.
جولتنا على هذه الإمارة السعيدة، التي يلجأ إليها الكثير من الأثرياء، وبخاصة الرياضيين كملاذ للتهرّب من دفع الضرائب في بلدانهم، نختمها مع حلول الليل في أشهر معالمها على الإطلاق: الكازينو، الذي ذاعت شهرته في أنحاء العالم وأصبح رمزاً للإمارة ومرادفاً لصخب حياتها الاجتماعية لا سيما بعد أن ظهر في أفلام جيمس بوند.
صمم المبنى المهندس الفرنسي «شارل غارنييه» في العام 1878 بعد أن انتهى من تصميم وبناء دار الأوبرا في باريس الذي يذكّر كثيراً بمبنى كازينو مونتي كارلو. ربطة العنق للرجال وأناقة السهرات للسيّدات من الشروط الصارمة لدخول الكازينو الذي، لولا قاعات المراهنات المحظورة على أبناء الإمارة، لظنّه الزائر قصراً ملكيّاً لفخامته وما يضمّه من أعمال فنيّة وتحف قديمة.
وللكازينو قصة طريفة حول أسباب تأسيسه. في العام 1850 خسرت موناكو المدن الثلاث التي كانت تدرّ عليها معظم ثروتها من زراعة البرتقال والليمون وإنتاج زيت الزيتون وأصبحت العائلة على وشك الإفلاس، فقرر الأمير منح ترخيص لبناء حمّامات للعلاج، كانت قد شاعت بين الطبقة الأرستقراطية الأوروبية في تلك الفترة. ويقال إن الكازينو الشهير أنقذ العائلة الحاكمة من الإفلاس.
ساحة الكازينو هي الرحى التي تدور حولها حياة الرقّي والأناقة والشهرة التي جعلت من موناكو قطب الغلامور في العالم منذ أواخر القرن التاسع عشر. وإلى جانب مبنى الكازينو تقوم دار الأوبرا الجميلة بواجهتها الرخامية وقبّتها الحديدية التي تتعاقب عليها أشهر فرق الباليه العالمية، وعلى الجهة الأخرى من الساحة يرتفع الصرح الذي قام عليه القسط الأكبر من شهرة الإمارة وكُتبت بين جدرانه وفي قاعاته أجمل الفصول من تاريخها أنه فندق باريس Hotel de Paris الذي خرج مؤخراً من عملية تجديد شاملة أعادت إليه كل البريق الذي جعل منه أحد أشهر الفنادق العالمية وأحد أبرز معالم الإمارة.
يعود بناء هذا الفندق إلى العام 1864 على عهد الأمير كارلوس الثالث ويُعتبر، إلى جانب الكازينو ودار الأوبرا والحمّامات البحرية، من الركائز الأساسية للسياحة والحياة الاجتماعية الراقية التي تتميّز بها موناكو.
منذ أكثر من 150 عاماً تشهد قاعات هذا الفندق الفخم أجمل الاحتفالات والسهرات التي ترتادها العائلات المالكة والحاكمة إلى جانب مشاهير الفن والسينما والرياضة في العالم. درّته هي قاعة الإمبراطورية المصنّفة بين المعالم التاريخية منذ مطلع القرن الماضي، والتي استعادت مؤخراً سحرها بعد تجديد سقفها الذي تغطّيه صفائح الذهب الخالص وتتدلّى منه مجموعة من الثريّات النادرة بجودتها والفريدة بتصاميمها. وليس ما يضاهي جمال هذه القاعة التاريخية سوى المنظر الخلّاب الذي تطلّ عليه من واجهتها الزجاجية. أعمدة المرمر الإيطالي التي ترتفع على جوانبها شهدت عشرات المسابقات لملكات جمال العالم، وحول موائدها الأسطورية جلست رؤوس متوّجة وعباقرة الفنون وشخصيات فكرية وسياسية بارزة، بجانب أشهر الممثلين وأجمل النساء في العالم.
في العام 1923 بدأت غابرييل «كوكو» شانيل تتردّد على موناكو بعد أن تبرّعت بتمويل نشاط فرقة الباليه الروسية في دار الأوبرا، وسرعان ما أصبح فندق باريس مقرّ إقامتها المفضّل حيث أقامت صداقات مع جان كوكتو وسالفادور دالي وفيسكونتي. وفي العام 1924 قامت بتصميم ملابس أحد عروض فرقة الباليه، وكانت أقرب ما تكون إلى ملابس السباحة والبحر والرياضة، بحيث صارت تعتبر أول «مجموعة صيفية» في عالم الأزياء الذي درج بعد سنوات على نظام المجموعات الموسمية كما نعرفه اليوم. وقد بلغ تعلّق كوكو شانيل بموناكو أن بنت لها فيها فيلّا على الطراز المتوسطي تحيط بها أشجار من الزيتون العتيق كان يحلو لصديقها ونستون تشرشل أن يتنزّه بينها وأحياناً يرسم تحتها بعضا من لوحاته.
منذ خمسينات القرن الماضي، وبعد قران الأمير رانييرو، والد الأمير الحالي، على الممثلة الأميركية الشهيرة غريس كيلي، أصبحت موناكو محجّة المشاهير من كل الأنحاء، يأتون لزيارة الأمير وزوجته وينزلون في فندق باريس حيث أقيم عشاء الزواج الذي ضمّ مجموعة من المشاهير لم تتكرّر في أي مناسبة أخرى إلى اليوم. ويضمّ الفندق اليوم جناحاً فاخراً يحمل اسم غريس كيلي، الأميرة التي ارتبط بها تاريخ الإمارة أكثر من أي شخص آخر، تزيد مساحته عن 900 متر مربّع موزّعة على طبقتين ويشرف على أحد أجمل المناظر في موناكو.
وليس أفضل من ختام لجولتنا في هذا العالم الساحر سوى تناول طعام العشاء في مطعم لويس الخامس عشر الذي يشرف عليه الطبّاخ الفرنسي الذائع الصيت آلان دوكاس، الحائز على ثلاث نجوم من ميشلان، والذي يجعل من شهرة هذا الفندق صنواً لشهرة الإمارة.
وقد يهمك أيضا:
اكتشاف بحيرة على ارتفاع 11 ألف قدم في جبال الألب الفرنسية بعد ذوبان الجليد
أرسل تعليقك