عن الحروب والمنافي واغتيال الطفولة والأحلام، تدور أجواء رواية «دفاتر فارهو»، وهي الأولى في رحلة السرد للكاتبة العمانية المقيمة في الإمارات ليلى عبد الله (البلوشي)... صدرت الرواية حديثاً عن منشورات «المتوسط»، وتجسد محنة بطلها الشاب الصومالي الذي يبدو قدره كأنه اختبار مستمر للصدمات، منذ انتمائه المبكر والمغلوب على أمره، لعصابة أفريقية بارزة لتجارة الأعضاء البشرية، تستغل الأطفال لصيد الضحايا، حتى فراره إلى وطن بديل باحثاً عن ملاذ إنساني وبداية ناصعة، فلا يجد نفسه سوى رقم جديد على قائمة أسئلة الغربة واللجوء.
حسب الناشر فإن «دفاتر فارهو» رواية جريئة عن أطفال الحروب والمنافي، عن تشرُّدهم في أوطان غريبة وعن غربتهم في أوطانهم، تستعرضها الكاتبة من خلال حياة فارهو البطل المرتقب لفيلم وثائقي.
حول عالم هذه الرواية اللافتة، هنا حوار مع كاتبتها ليلى عبد الله، حول رؤيتها لدور الأدب في تضميد جراح منكوبي اللجوء والحروب، وإلى أي مدى نجح بطلها في الكشف عن مناطق شائكة ومهمشة إنسانياً في هذه القضية.
* كيف التقطتِ خيوط عالم «فارهو» بطل روايتك؟
- كنت أنكب على كتابة الفصل الأول من رواية تاريخية موضوعها الحرب أيضا، ولكن في زمن الماضي حيث حروب القبائل والعشائر، وقد قطعت شوطًا لا بأس به ككتابة أولية لفكرة الرواية. ولكن في يوم ما كانت تزورنا أختي الكبرى وبينما كنت في غرفتي أكتب سمعتها تقول لأمي هل سمعت ما حصل؟ ثم استفاضت بقولها يُقال بأن عصابة أفريقية تستخدم الصغار وتضعهم في أماكن نائية ليتصيّدوا أصحاب السيارات من أهل البلد ويوهموهم أنهم تائهون عن طريق البيت ويطلبوا منهم المساعدة، وحين يوصله صاحب السيارة إلى البيت المعني وفق مواصفات الطفل المرتبكة... تبدأ من هنا المغامرة؛ الاختفاء القسري وتجارة بالأعضاء البشرية!
* أن تدور روايتك الأولى في مناخ مغاير، يحمل ظروفاً بعيدة كل البعد عن عالمك الخاص كروائية، هل شكل هذا تحدياً لك من نوع خاص؟
- لا أعتقد أنه في زمن التواصل الاجتماعي يمكن أن تعد كتابتي عن موطن آخر أمرًا صعبًا، فنحن نتواصل مع أصدقاء من عوالم مختلفة، نكسب كل يوم هويّات مضاعفة عبر القراءة والكتب والتواصل والسفر، ثم هو جزء من عالمي الخاص أيضًا، فعملي معلمة لحشد من أطفال العرب وغير العرب، من أفغانستان وباكستان وبنغلاديش وغيرها، كنت أعلّم هذا الخليط العظيم اللغة العربية، أكسبني مع الزمن تجربة ثرية ومتعددة الثقافات والهويات. لكنه تحدٍّ... نعم، أن أكتب عن كل هؤلاء. أن أنبش حيوات مغايرة، عن العوالم السفلية. هي محاولة كشف واستشراف مصير دولنا الخليجية التي تحتضن هذا الكم الهائل من الهويات والثقافات شديدة الاختلاف والتنوع. هو تنبؤ أيضا لامتدادهم مستقبلاً.
* إلى جانب الأحداث التي مرّ بها «فارهو»، هل ثمة «رسائل» أردت أن تحملها الرواية؟
- «فارهو» هو الصبي الصغير الذي نجا من حرب أهلية ومن المجاعات، وجد نفسه أمام حرب أخرى في بلاد أخرى كأنه خُلق في هذا العالم ليقاوم. يقاوم ما تمليه عليه نفسه وما يمليه عليه الآخرون، وحين كبر ظل يحمل في داخله مآسيه، لكن مقاومته اتخذت شكلا آخر، ويقاوم هذه المرة لتحقيق غاياته من خلال أطفال يكون هو معلمهم، يغذّي في طلابه أهمية العلم والمعرفة لبناء الأوطان، وينزع منهم الأسلحة التي ظلت لصيقة بهم منذ ولادتهم! «فارهو» هو نموذج لإنسان المستقبل ورسالة طفل من زمن الحروب والملاجئ والمنافي والغربة. لذا وظفت فيه كل الرسائل التي كنت أوّد أن أقولها.
* كانت لك بدايات مع القصة والمقال، هل تعتبرين الرواية عتبة لنوع جديد من الكتابة، الفترة المقبلة؟
- بالأدق كانت لي بدايات مع الشعر الحر، ولي أشعار تُرجمت إلى لغات مختلفة وانتخبت بعض نصوصي الشعرية للترجمة في كتابين مترجمين، الكتاب الأول أنطولوجيا مع كتاب من العرب، والكتاب الثاني هو ترجمة إلى الإسبانية مع لفيف من شعراء عمُان. لكني مع الوقت هجرت كتابة الشعر إلى كتابة السرد الذي سحبني إلى عالمه بقوة سحرية. أما كتابة المقال فأنا حريصة على الالتزام بالكتابة الأسبوعية أو الشهرية لكثير من المجلات والصحف، سيرًا على نصيحة معلمنا الكبير غبريال غارسيا ماركيز، والسارد العظيم إيتالو كالفينو، اللذين كانا يعدّان المقالة الأسبوعية نوعًا من اللياقة الأدبية.
* هل تعتقدين أن الأدب بوسعه مداواة ما أفسدته كوارث الحروب والمجاعات، ولو بتناولها أدبياً؟
- نعم، أؤمن أن الأدب قادر على مداواة أرواح المهشمين ما بعد الحرب، فما قبل الحرب تظل الروح رهينة الكارثة والوجع النفسي والصدمة. يوجد مثال حيّ، نستطيع أن نلمسه في الكتابات التوثيقية للروائية البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش، فقد قضت سنوات وهي توثّق حقائق واعترافات من جنود الحرب، من الأمهات، من الزوجات، من الأطفال، من ضحايا كوارث تشرنوبل، من المشّعين. نقرأ في اعترافات الجنود نوعًا من الرعب والخوف وتأنيب الضمير والخداع الذي تعرّضوا له. هم مثال لأبنائهم، للأجيال القادمة كي لا يعيدوا أخطاءهم، ويكونوا أكثر حزمًا في مواجهة ما يمليه عليه واقعهم!
قطعًا، لا أحد ينسى، لكن الذاكرة ترمم، والذاكرة تلمّع أيضا. فها هي إسرائيل إلى اليوم تخوض حربًا شرسة مع أدولف هتلر، ومع النازيين، عبر الأفلام السينمائية، الكتابة ترميم أيضا للحروب الشخصية، والصراعات النفسية، كثير من الكتّاب والأدباء أنقذتهم الكتابة من الموت والمرض وفراق الأحباب كإيزابيل الليندي، والروائي الياباني كينزا بورو أوي، هل تعلمين أن الكاتب الأميركي بول أوستر تحوّل من كتابة الشعر إلى كتابة السرد بسبب صدمة موت أبيه؟
أرسل تعليقك