توجَّه الفنان اللبناني بشار مارسيل خليفة إلى جدته من خلال أغنيته الجديدة «ذكريني»، وهذه الأغنية التي سجلها في اللحظات الأخيرة قبل مغادرته منزله القروي في لبنان عائداً إلى مقره الدائم في باريس، وهي جزء من ألبوم غنائي جديد ينوي إطلاقه بعنوان «أون أوف».
«في ذلك المنزل القروي الذي يعبق بذكريات كثيرة لي مع مرحلة الطفولة راودني شعور عميق لم أستطع مقاومته».
يقول بشار خليفة في حديث لـ«الشرق الأوسط». ويتابع: «وعلى أصوات زقزقة العصافير الصباحي وأنا أرتشف فنجان قهوتي الوداعي لإقامتي المؤقتة في لبنان، خرجت هذه الأغنية. واسترجعت فيها مشاهد قصيرة مع جدتي عندما كانت تقشر لي حبات فاكهة البرسيمون (كاكي).
عشت تلك اللحظات بسعادة، وهي في رأيي أهم من الموسيقى بشكل عام. فالأحاسيس والذكريات هي النوتات الحقيقية للموسيقى التي نكتبها.
وكل تفاصيل أخرى تتعلق بأجمل صوت وأفضل تقنية وأحسن عزف وغيرها من العبارات التي يتفاخر بها البعض عندما يتحدثون عن عالم الموسيقى، لم تعد تهمني.
فكلما تقدمت بالسن، فقدت تلك العبارات التجارية من معناها ووقعها عندي، وعمقت بشكل أكبر المشاعر والذكرى».
بالنسبة لبشار خليفة نجل الفنان اللبناني مارسيل خليفة النوستالجيا والحنين إلى ذكريات معينة لم تفارقه يوماً. فصحيح أنه هاجر إلى فرنسا منذ الصغر إلا أن لبنان بقي محفوراً في قلبه، فهو يشتم رائحة ترابه ويحمل حبه على أكتافه.
«القصة لا ترتبط بالشعور بالوطنية، على قدر ما هي جزء لا يتجزأ من حياته».
وما يعنيه بشار في كلماته القليلة هو الذي يعشق الصمت على التحدث، أن ذكرياته مع لبنان تسكنه تلقائياً حتى أنه كان أحياناً يتمنى لو ينقطع التيار الكهربائي في منزله في باريس ليستعيد مشهدية عاشها باستمرار في لبنان.
«كنت مستعداً دائماً لهذا الموضوع. وقد وضعت جانباً شمعة مع ولاعة كي أستعملها عند الحاجة في بلدي المهجر، فطفولتي كما غيري من الناس كان لها التأثير الكبير على شخصيتي، وأثرت في حياتي، فالطفولة ترتبط ارتباطاً كبيراً بالحرية، إذ حينها لا يتصرف المرء على أساس هذا ممنوع وهذا مسموح. وعندما نكبر نصبح محاطين بقيود كثيرة اجتماعية وبيئية واقتصادية وغيرها، فيصغر المكان علينا ويضيق.
وفي عودتي إلى الطفولة أشعر كأني أحلق في سماء واسعة، متحرراً من أي قيد».
كلمات أغنيته «ذكريني» تحمل في طياتها كما من الدفء والحنان، سيما وأنه يقولها بصوت منخفض من باب «الوشوشة» في أذن الجدات بشكل عام، اللاتي يمثلن الصورة النموذجية للأصالة. فهن الرابط العاطفي الذي ننسجه مع مكان ما تبني جذور الفرد وتنقل الموروث الأدبي الشفهي بحكاياها. «ذكريني دايماً ذكريني ما أنسى هالماضي... هونيك ضجة عجقة وزمامير... حكيني واحميني من النسيان يا ستي... ذكريني طعم الكاكي والتين من إيديك».
ولكن هل أخبر بشار خليفة جدته بأنه خصصها بأغنية؟ يرد في سياق حديثه: «لم أشأ أن أكون مباشراً إلى هذا الحد. فالأغنية موجهة لجميع الجدات. وأحب عادة أن ينتشر العمل ويلاقي تفاعلاً مع الناس من دون فرضه على أحد».
يشعر سامع أغنية «ذكريني» كأنها هدهدة، يمكن غناؤها للصغار فيشعرون بالاسترخاء وينامون. وهي من ناحية ثانية تهز أحلام الكبار وتعيدهم إلى بر السلام. ومن باب التشبث بالجذور في فترة يعاني لبنان من تشرذم أبنائه، يتلوها بشار خليفة كصلاة قبل النوم.
فالجدات كائنات حية لا يتكرر حضورهن في حياتنا. يغمروننا بحنانهن ونشتاق لأحضانهن، تماماً كما نشتاق لأحضان بلدنا عندما نفتقد وهجه في السلم والحرب معاً.
ويوضّح «تمسكت بالـ(وشوشة) لأننا عندما نريد إيصال رسالة معينة ليس من الضروري أن نرفع الصوت. فمجتمعاتنا اليوم يسودها الضجيج ومع الموسيقى نستطيع استحداث مساحة هدوء وسلام، فهي من ضمن عناصر الكون كناية عن فسحة هدوء».
يتألف ألبوم «أون أوف» لبشار خليفة الذي ينوي إطلاقه في موسم الخريف المقبل من 11 أغنية سجلها في لبنان، فهو وللمرة الأولى نقل فريقه الموسيقي إلى بلده الأم لإنجاز ألبومه الخامس في مشواره الفني. وفي منزل قروي يوجد فيه الأساسيات من بيانو وموقد، وعدة آلات موسيقى نادرة انطلق مشواره مع هذا العمل. خاصة أنه في هذا المكان، يمتزج الزمن بين الحاضر والذكريات.
«إن موضوعات العمل تنبع من واقع حياة يؤثر على أدائنا وموسيقانا تلقائيا، وهي بغالبيتها وجدانية. لو كنت أريد أن يكون ألبوماً موسيقياً عادياً لقصدت أي استوديو تسجيل في أوروبا.
ولكني ما عدت متحمساً لهذه الأمور، بل صرت باحثاً متعمقاً في ذاتي. والموسيقى هي بمثابة حجة لتطالي بأفكارك الناس فتجذبيها نحوك.
فهي تماماً كحفلة تلتقين فيها أشخاصا لا تعرفينهم فتصبحين فجأة من ضمن خلطة من الناس. هذه العلاقات لا نجدها في حياتنا اليومية فنولدها بالموسيقى والفن كعلامة فارقة تدمغها».
وعن كيفية ولادة هذه الأغاني يقول: «بينها ما رأى النور في عتمة الليل وأخرى في ظل ضوء النهار والأمل. كما بينها أغنيات تحاكي الطفولة وهي المرحلة الأهم بالنسبة لي، وأمر فيها على الأبوة التي عشتها مع والدي وأعيشها اليوم مع أولادي».
ويصف بشار خليفة ألبومه الجديد بأنه يعكس كل مراحل الهبوط والإقلاع التي نعيشها في كل تفصيل من حياتنا والتناقض الذي يغلفها على طريقة «أون أوف».
واللبناني اليوم يعيشها على أصعدة مختلفة بدءاً من تلاعب سعر الدولار وانقطاع التيار الكهربائي ومروراً بحياته المعيشية التي تشهد باستمرار تفاوتاً لافتاً يتمحور حول التناقضات وبين طلعات ونزلات متكررة. ويعلق: «هذا الألبوم هو كناية عن عالم صغير استوحيته من لبنان وعمرته على طريقتي وله علاقة بكلمات الشعر، فهي بمثابة الحجر الذي نبني معه الأساس».
وعن رؤيته المستقبلية للموسيقى يقول: «منذ البدايات الإنسانية والموسيقى موجودة، فليس نحن من اخترعها أو من كان لنا الحظ بفبركتها، لكن ما يواجهه عالم الموسيقى اليوم هو الطابع التجاري الخطير الذي يغزوه.
هذا الأمر يفقده قيمته الحقيقية ويصبح الهدف من الموسيقى ينحصر بمبدأ البيع أكثر، وهناك أشخاص ينجرفون مع الموجة وكأنهم مسيرون وليسوا مخيرين. وفي المقابل لا نزال نحظى بشريحة من الناس تعي هذا الأمر وتعرف تماماً أن الموسيقى هي أقوى من التجار أنفسهم».
ويختم: «أنا شخصياً لا أخاف على الموسيقى فهي موجودة في الكون شئنا أم أبينا. وأملنا يبقى متعلقاً بجيل الشباب الذي لديه القدرة والقوة على إحراز التغيير».
قد يهمــــك أيضـــا:
الاحتفاء بعيد الموسيقى العالمي بحفل فني في حلب السورية
أرسل تعليقك