دمشق ـ نور خوام
يتدفّق المئات من الطلاب باتجاه ثانوية الغوطة الشرقية المركزية في بلدة كفربطنا، مع حلول الثامنة صباحا، بعدما شكلت المنطقة قبل أشهر قليلة مسرحا لمعارك عنيفة بين الجيش وفصائل مقاتلة.
وتوجّه أكثر من 4 ملايين طالب وتلميذ سوري إلى المدرسة في مناطق سيطرة الحكومة في البلاد مطلع الشهر الحالي، تزامنا مع بدء السنة الدراسية، وفق ما أعلنت وزارة التربية السورية.
أعداد الطلاب تتزايد بشكل يومي
وتنهمك مدرّسة اللغة العربية بتول جردات في التحدث مع الطلبة الجدد، ومناقشتهم لمعرفة ما لديهم من معلومات وما ينقصهم منها، بعدما اضطرت للهرب من بلدتها كفربطنا إلى دمشق قبل 5 أعوام، وعادت إليها فور إعلان الجيش البلدة "آمنة" قبل بضعة أشهر، وفي قاعة تدريس متواضعة، تشرح جردات (30 عاماً) أنواع الفعل في اللغة العربية ويُسارع بعض الطلاب للإجابة عن أسئلتها.
وتقول المدرّسة لوكالة الصحافة الفرنسية: "أشعر بالغرابة مثلهم، كلّ شيء جديد، وجوه الطلاب، المقاعد، الجدران المرممة، حتى الهدوء هو أمر غريب وغير مألوف لي ولهم".
وتضم قاعة التدريس التي تخلو جدرانها من أي رسوم توضيحية، نحو ثلاثين طالباً موزعين على مقاعد خشبية متواضعة.
وتجهد بتول لكسر الحواجز بينها وبين طلابها، وتوضح: "أسألهم ماذا فعلوا خلال عطلة الصيف، فيستغربون ولا أحد يجيبني (..) بعضهم قال كنا نُحصي القذائف، وآخرون ضحكوا ساخرين (..) والبعض قال لا يوجد شيء جميل في الحياة".
وتعرب عن اعتقادها بأنهم جميعهم "لم يعيشوا طفولة طبيعية أو حياة مستقرة". وتجد نفسها اليوم أمام "تحدٍ حقيقي" مع وجود "الكثير من الصعوبات، إذ لا ندري ما هي خلفيّات المناهج التي كانوا يدرسونها (..) إضافة إلى الوضع النفسي السيئ للغاية للطلاب". في قاعة مجاورة، يؤيد المدرّس يوسف منصور (28 عاماً) زميلته لناحية الصعوبات. ويضيف عليها: "النقص الكبير في المدرّسين والكادر الإداري". ويقول: "لدى الطلاب نهم للتعلّم، لكن لا كتب ولا معدّات حتى الآن (..) وعدونا بحل كل هذه المشاكل خلال الأيام المقبلة، وأنا متفائل وسعيد بعودتي" للتدريس.
ويبلغ عدد المدارس الصالحة للتدريس في الغوطة الشرقية حالياً قرابة خمسين مدرسة، وفق معاون وزير التربية عبد الكريم حمّاد، فيما تغيبُ الإحصاءات الرسميّة عن عدد الطلاب الموجودين في الغوطة الشرقية.
وخلف طاولة صغيرة في رواق عند مدخل المدرسة، تجلس سمر الخطيب بينما يتجمع حولها عدد من الأهالي الذين وصلوا لتسجيل أبنائهم. تحافظ على ابتسامتها رغم الزحمة حولها وتدون أمامها البيانات المطلوبة لتثبيت التسجيل.
وتوضح الموظفة الإدارية المسؤولة راهناً عن تسيير شؤون المدرسة: "لدينا في المدرسة حالياً 19 صفاً، ونعمل على مضاعفة عدد الصفوف، لأن أعداد الطلاب تتزايد بشكل يومي"، مضيفة: "نسجل سبعين طالباً جديداً كل يوم".
وتقول السيدة الخمسينية التي ارتدت لباساً فضفاضاً مع حجاب أبيض اللون على رأسها: "أنا ابنة كفربطنا، جذوري هنا وهؤلاء أهلي". وتتابع: "سعيدة للغاية لأني عدت إلى المدرسة التي تخرجت منها".
يتعاون السكّان لترميم ما يُمكن ترميمه وفتح الطرق
وأحصى فريق وكالة الصحافة الفرنسية فتح المدارس الست الموجودة في البلدة أبوابها أمام الطلاب رغم عدم انتهاء أعمال التأهيل في عدد منها. ويتعاون السكّان مع المجلس المحلي على ترميم ما يُمكن ترميمه وفتح الطرق. وباتت قرابة خمسين مدرسة في الغوطة الشرقية جاهزة لاستقبال التلامذة والطلاب خلال العام الدراسي الجديد، وفق ما يوضح المسؤول في مديرية تربية ريف دمشق الدكتور لورانس السوسي لوكالة الصحافة الفرنسية. ولم تسلم المدارس من تداعيات النزاع الذي تشهده سوريا منذ العام 2011 وتسبب بمقتل أكثر من 350 ألف شخص ودمار هائل في البنى التحتية والمرافق العامة.
وبحسب إحصاءات وزارة التربية، تم تأهيل نحو خمسة آلاف مدرسة منذ اندلاع النزاع، بينها 785 مدرسة منذ مطلع العام الحالي. في باحة المدرسة، يلعب عبد الرحمن (17 عاماً) مع زملائه بكرة القدم بعدما خسر العديد من أصدقائه خلال سنوات النزاع. ويقول لوكالة الصحافة الفرنسية: "تبعثرنا، منّا من مات، ومنّا من هاجر إلى الشمال (إدلب) وعددٌ قليل من أصدقائي بقي معي ليكمل دراسته".
استمرّ حصار الغوطة الشرقية أعوامًا
تعرضت الغوطة الشرقية لحصار استمر أعوامًا، قبل أن يشن الجيش بدعم روسي عملية عسكرية واسعة النطاق في فبراير/ شباط انتهت في أبريل/ نيسان بسيطرته على كامل المنطقة التي كانت تعد أبرز معاقل الفصائل المعارضة قرب دمشق.
وبموجب اتفاقات بين الحكومة والفصائل أبرمتها روسيا، تم إجلاء عشرات الآلاف من المقاتلين والمدنيين على دفعات إلى شمال سورية.
مع قرع أحد الأساتذة جرساً يدوياً معلناً انتهاء ساعات الدوام، يغادر الطلاب نحو منازلهم سيراً على الأقدام وسط شوارع لا تزال آثار مخلّفات المعارك من عبوات رصاص فارغة وحفر كبيرة واضحة للعيان فيها.
لدى وصوله إلى منزله القريب من المدرسة، يجد عمار حجّو (13 عاما) والدته بانتظاره على الباب مع ابتسامة عريضة، هي التي اعتراها القلق طيلة السنوات الماضية في كل مرة خرج فيها ابنها البكر من المنزل.