إحياء "الفُصحى" لدى السعوديين

في ظل العولمة والانفتاح الثقافي وتطور التكنولوجيا الحديثة، تواجه اللغة العربية تهميشًا ملحوظًا بفعل توغل اللغة الانجليزية في شتى نشاطات الحياة في الدول العربية، فيما تعد مهمة تأصيل اللغة العربية لدى النشء مسؤولية عظيمة تقع على عاتق المثقفين والأكاديميين الغيورين على لغة أمة الضاد التي نزل بها الوحي على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ومنها انبثق العلم والمعرفة وتجلت الثقافة العربية في أبهى صورها.

وهناك الكثير من الجهات التي تعنى بخدمة اللغة العربية مثل مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز لخدمة اللغة العربية والذي نهض بواجباته تجاهها ونظم المؤتمرات والندوات وأقام الدورات والورش سواء في الداخل للطلبة الغير ناطقين بها والوفود الزائرة أو خارج المملكة في بلاد مختلفة من العالم بالإضافة إلى شراكات كبيرة مع عدد من الجامعات والمعاهد لتدريس اللغة العربية ونشرها.

يقول الدكتور أحمد الهلالي -أكاديمي جامعة الطائف-: متغيرات العصر وحركيته أقوى من مخاوفنا، ورياح التطور التقني والعلمي أعتى من حجبنا وحواجزنا الواهية، فاللغة الإنجليزية اليوم أصبحت لغة العلوم والتقنية، واللغة المشتركة بين أكثر شعوب الأرض، وهذا الموقع أعطاها صدارة اللغات الإنسانية المعاصرة، فأصبحت مطلبا في معظم بلدان العالم، أما عندنا أصبحت شرطا أساسيا في معظم الوظائف، فبعد أن كانت في نطاق محدود بالقطاع الخاص، توسع حتى وصلت القطاعات الحكومية، وحرص الأهالي على ضمان مستقبل أبنائهم جعل اللغة الإنجليزية واحدة من الخيارات التي تلجأ إليها الأسرة ليتعلم أبناؤها هذه اللغة، ومبادرة وزارة التعليم إلى فرض الإنجليزية من الصف الرابع الابتدائي مادة أساسية زاد حرص الأهالي على تحسين مستويات أبنائهم فيها، من خلال المعاهد ومن خلال المدارس العالمية المنتشرة.

اقرأ ايضًا:

"واشنطن بوست" تُخصِّص عبر الإنترنت صفحة بـ"اللغة العربية"

ويضيف: لا لوم على الأهالي في الحرص على مستقبل أبنائهم، لكن يقع اللوم على المؤسسات التربوية والأكاديمية التي يجب أن تبادر إلى توعية الأسر بأهمية التريث في إلحاق أبنائهم بمعاهد اللغة الإنجليزية قبل أن يتقنوا العربية تحدثا وكتابة، والتوعية في هذا الجانب لا تكفي، بل يجب أن تتعداها إلى إصدار قرارات بمنع الأطفال دون سن العاشرة من الالتحاق بهذا النوع من الدراسات؛ لأنها ستؤثر حتما على اللسان العربي لدى الطفل.

ويكمل: كذلك هناك بعض الجامعات التي تكرس اللغة الإنجليزية في مجالات لا تعد فيها مطلبا أساسيا، وهذا في نظري من الأخطاء الفادحة التي يجب أن تتنبه إليها وزارة التعليم، وأن تفرض اللغة العربية في كل التخصصات، وتقنن التخصصات التي تهيمن عليها اللغة الإنجليزية، وأن تضغط على الجامعات لتعريب العلوم والمصطلحات قدر الإمكان، فإن رضينا حضاريا بالواقع، وتقبلنا الإنجليزية -على مضض- لغة للعلوم والتقنية، فلا يجب أن نستسلم ونساهم في إضعاف مكانة لغتنا.

واختتم بقوله: في رأيي لا تكفي الخطب والقصائد الشعرية والتوصيات في كل ذكرى للاحتفاء باللغة العربية في يومها العالمي، بل يجب أن نصنع مقاومة داخلية -على الأقل- تحمي لغتنا من الضعف، وتساهم في حضورها العلمي والتقني، ولا يكفي الدور الأكاديمي والتربوي، بل يجب أن يتحرك السياسيون والاقتصاديون إلى فرض بعض الشروط على الشركات العالمية المنتجة للتقنيات المختلفة أن تجعل اللغة العربية خيارا أساسيا في منتجاتها أيا كانت، وأن تكون لغتنا الأم أساسا في مستشفياتنا وفنادقنا ومطاعمنا وكل منشأة على ثرى أرض عربية، أما على مستوى الأفراد، فنقد المتحدثين باللغة الإنجليزية في الأوساط العربية، أو حشر مصطلحاتها أثناء الحديث بالعربية واجب على كل مثقف وإعلامي، بل يجب أن يكون شرطا في اللقاءات الإعلامية والمؤتمرات والملتقيات بأنواعها.

الثقافة والإعلام

ويرى الدكتور مشعان بن نازل الجابري- أستاذ اللغويات المشارك بجامعة طيبة- ان مرحلة الطفولة الأولى تُمثّل الفطرة، والبراءة، والتربة الخصبة للزّراعة؛ وتأثير هذه المرحلة في حياة الطفل أمرٌ لا يحتاج إلى بيان، ومن ذلك تأثيرها في لغته. فلغةُ المعرفة والتفكير التي تستمرّ معه هي لغة التنشئة؛ لذلك كان العرب من الحاضرة يسترضعون أبناءهم في عرب البادية؛ لتصحّ أجسادهم، وتستقيم ألسنتهم؛ ومن لم يفعل ذلك ربّما لازمه اللحنُ ولم ينفعه تعلّم النحو كما يُروَى عن الوليد بن عبد الملك.

ويضيف: يُعدّ اللحنُ نقصًا عند الفصحاء، وشينًا عن البُلغاء، مع أنّه بين مستويات لغويّة في لغة واحدة، فكيف إذا كان البديلُ للحن لغةً ثانيةً تزاحم لغة الطفل الأمّ، وما الأضرار على الطفل وعلى مجتمعه؟ ولا يماري في تلك الأضرار أهلُ النظر، والإنصاف، وهي كثيرةٌ على الفرد، والمجتمع، ومنها: الضرر اللغويّ، فأيّ جناية تُجنى على لغة الجمال والكمال أن تُسبدَل بلغةٍ لا تملك ثراءها، ولا جمالها، ولا تصرّفها؟. والضرر النفسي، فالطفل الذي يرتضع زُلال العربيّة مع لبن أمّه، ويسمع مناغاتها له بالعربيّة، ويأنس بمفرداتها، وبعد ذلك تأتي لغة أخرى، بمفردات أُخَر، ثم يسمع من أقرانه ومَنْ هم حوله اللغة الأم؛ فأيُّ ازدواج ينشأ في نفسه، وأيّ تداخل تداخل لغويٍّ في ذهنه، وأي تردّد يصاحبه وهو يخاطب الآخرين، وأي حرجٍ إنْ وصف شيئًا بغير لغة السامعين؟

ويستطرد: الضرر المعرفيّ، ولا مراءَ فيما بين اللغة والتفكير، واللغة والمعرفة. والضرر الاجتماعي، فإذا نشأ في المجتمع مَن لم يتشرّب لغته الأم، و لم يعتزّ بالاهتمام بها، وخالط مجتمعه الأصلي فالتباين واقعٌ، والتباعد حاصلٌ، وسيغيب التواصل اللغويّ المأمول، ويزيد الطين بلّة والداء علّة، ويتحوّل الاجتماع إلى فُرقة، والمودّة إلى كره إذا كان المتحدّث باللغة الطارئة يزدري مَن اكتفى بلغته الأم، ويراه في مستوى لغويّ أقلّ.

ويستكمل: إلى غير ذلك من الأضرار على المؤثرة على هويته، وقيمة الفرد والمجتمع؛ لأنّ التعلّق دائمًا يكون بلغة الأقوى كما ذكر ابن خلدون وغيره. ولا يُفهم من هذا إهمال تعلّم لغات أُخَر بل يكون تعلّمها بعد تشرّب الطفل للغته الأم، مع التأكيد وبيان الواضح للطفل لماذا يتعلّم لغة أخرى. وخطر هذا الموضوع قد يغيب عن بعض الآباء والأمهات، فلا بدّ من وقفةٍ من أهل الثقافة، والإعلام، والمؤسسات التعليمية، ومراكز الأبحاث لتجلية الأمور، ودراسة الظاهرة، واقتراح الحلول.

وتابع: ومن أهم الأمور -في نظري- التي تساعد في مواجهة هذه الظاهرة: هو البيت؛ فإذا كان البيت معتزًّا بلغته؛ فلن يكون (مُعزِّزًا) للطفل عندما يلهج بمفردة، أو تعبير بلغة أخرى سمعه من لعبةٍ، أو إعلانٍ، أو مقطعٍ، أو من غيرها. كذلك التعاون بين المؤسسات التعليمية، والمؤسسات التي تُعنى بالبرمجة وبألعاب الأطفال؛ لإحلال التعابير العربيّة المناسبة محل الوافدة.

قرار سياسي

ويذكر الاستاذ الدكتور محمد خضر عريف-أستاذ الدراسات العليا العربية بجامعة الملك عبد العزيز- انه قبل عدة سنوات كان التحاق الطلاب السعوديين بالمدارس العالمية (International schools ) محظوراً، إلا أنه كانت هناك أسباب دقيقة ومنصوص عليها في وزارة التعليم منها أن يكون مرافقاً لوالديه خارج المملكة في البعثة ثم عاد ولا ينطق بالعربية فيسمح له بالالتحاق بإحدى هذه المدارس إلى أن تنمو لديه بعض المهارات اللغوية العربية وينقل بعدها الى المدارس العربية الحكومية أو الخاصة.

ويقول: يبدو أن هذا الحظر قد رفع خلال السنوات القليلة الماضية وأصبح تسجيل أبناء الوطن في هذه المدارس أمراً عادياً دون قيد أو شرط فأقبلت الأسر عليها بشكل غيّر مسبوق رغم فحش تكاليف الدراسة فيها إذ تصل الرسوم السنوية للتلميذ الواحد إلى سبعين ألف ريال سوى التكاليف الإضافية أي ما يعادل دخل أسرة مكونة من خمسة افراد لعام كامل، وحصيلة هذه التكاليف الخيالية فتى أو فتاة لاينطقان بالعربية بل بالإنجليزية على وجه الخصوص وهما يعيشان في مجتمع عربي مسلم بل في قلب العروبة والإسلام.

ويتابع: والأنكى والأشد بلاءً أن ذويهم وأولياء أمورهم يفاخرون بذلك ويجاهرون به فيتعمدون أن يخاطبوا أبنائهم أمام الضيوف والزائرين بالإنجليزية فقط ليعلموا أن هؤلاء الأبناء غرباء عن اللغة العربية ومنقطعوا الصلة بها ومرتبطون ارتباطاً عضوياً بالإنجليزية وما عاد الآباء يخشون على مستقبل أبنائهم إن هم ابتعدوا عن العربية فالجامعات الحكومية والخاصة على حد سواء بها تخصصات كاملة تقوم على التدريس بالإنجليزية كالطب والهندسة والحاسب والإدارة وبعض تخصصات العلوم وينسى هؤلاء أن اللغة هي وعاء الثقافة فالإنجليزية تحمل معها كل مقومات الثقافة الغربية والأنجلوسكونية تحديداً ومن تمكنت الإنجليزيه منه إن جاز التعبير من الأطفال ستتمكن منه الثقافة الغربية وسيكون بعيداً عن ثقافته العربية الإسلامية التي يدخل فيها الدين والمثل والعادات والتقاليد بل الملبس والمأكل والمشرب والسلوك الإجتماعي عموما.

ويستطرد: وقد قيض لي أن أزور إحدى تلك المدارس من الداخل وظننت للوهلة الأولى أني داخل مدرسة ثانوية أمريكية وأنا أعرف المدارس الأمريكية جيدا. لعيشي سنوات طويلة في امريكا؛ بمعنى ان المدرسة مختلطة، وكل ما فيها من بشر وحجر ينتمي إلى الثقافة الأمريكية فحسب. ولا شك في ان الطلاب السعوديين داخلها غرباء أو كما قال الشاعر: ترى الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان. وفي الشأن الثقافي والاجتماعي كله نرى نبذاً للغة العربية والثقافة العربية وتنشئة الأطفال على التغريب حتى اصبح لديهم ما يشبه الإنفصام تجاه لغتهم ودينهم وثقافتهم إلا من رحم ربك.

واستدرك عريف: ولا يعالج ذلك إلا بقرار سياسي كبير يشمل كل قطاعات الدولة التعليمية أولاً والإعلامية والإجتماعية والثقافية وتتحمل وزارات الإعلام والثقافة والتعليم المسؤوليات الأكبر في ذلك ليس لمنع تعلم الإنجليزية فهي لغة العصر ولغة العلم والإتصال ولكن للتأكيد على أنها ينبغي ان تبقى لغة ثانية second language او لغة اجنبية foreign language وان تبقى العربية اللغة الأولى (L1) او اللغة الأم mother tongue ولا يتحقق ذلك كله إلا بقرار سياسي اول خطوة منه تأسيس هيئة مختصة بالتخطيط والسياسة اللغوية Language Policy and planning كما هو موجود في كل الدول النامية والمتقدمة.

الهوية العربية

ويقول عمرو العامري -قاص وروائي-: ربما لي طرح مغاير جدا في ما يختص بالخوف على اللغة العربية بما أن بعض الأطفال يتكلمونها نتيجة المحاكاة أو برامج التلفزيون أو نتيجية للغة (السوشل ميديا) والتي هي إنجليزية في الغالب، ففي دولة كبيرة كالهند تتحدث وتكتب بأكثر من أربعين لغة محلية لجأت الهند إلى اللغة الإنجليزية كلغة رسمية، ورغم ذلك لم تتأثر أي من اللغات أو اللهجات المحلية وبقيت لغة الأردو واللغة البنقالية والتاميلية ولغة الملاياعلم وغيرها بقيت حية يكتب بها وتمثل بها الأفلام والموسيقى ولم تنقرض.

ويضيف: واللغة العربية أقوى بل هي الأكثر محافظة على هويتها منذ ان نزل بها القرآن الكريم وتكفل بحفظها، ورغم اللهجات المتعددة للشعوب العربية إلا أن اللغة العربية ظلت كما هي ويكفي أننا نتعبد بها الله خمس مرات في اليوم ونقرأ بها القرآن كل يوم. وزاد: الطرح أو القلق الوهمي الغير مبرر أخّر تعلمنا للغة الإنجليزية كثيرا وأفقد شبابنا سوق العمل وفرص المنافسة بل وأضعف مناهجنا الدراسية ولو كان لي من الأمر شيء لجعلتها لغة موازية للعربية في جميع المراحل. اللغة ليست وحدها هي الهوية فهل مثلا أفسد الأندومي والهمبرجر والبيتزا ذائقة الأكل المحلية ومحى الهوية؟ وهل ألغى الجينز الثوب والشماغ؟ لا لم ولن يحدث وهذا طبيعي جدا نتيجة سقوط الحواجز بين الدول وإلغاء نظرية المكان والحيز الجغرافي وغدا كل العالم قرية واحدة. ثم لنفترض أننا صدقنا وتجاوبنا مع هذه المخاوف ما هو الحل في هذه الحالة؟.

قد يهمك أيضــــــــــــــــًا​

الأزهر الشريف يعلن عن أول مسابقة عالمية لحفظ القرآن

مواطن هندي يحمل لواء المحافظة على اللغة العربية الفصحى