عبد الباري عطوان
اقتحمت قوّات مُكافحة الإرهاب العِراقيّة ورشةً تابعةً لحزب الله العِراق في العاصمة بغداد تحت غِطاء إنتاجها صواريخ كاتيوشا استهدفت السّفارة الأمريكيّة في المِنطقة الخضراء واعتقلت 14 شخصًا يُعتقد أنّ مِن بينهم “إيراني” في سابقةٍ هي الأولى من نوعها، ربّما تكون بداية مرحلة من عدم الاستِقرار وانعِدام الأمن في هذا البلد الذي يَقِف على حافّة الفوضى.
السيّد مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العِراقي المُقرّب من الولايات المتحدة الأمريكيّة، يُؤكّد أنّ هذا الاقتِحام هو بداية لاستراتيجيّة يتبعها للسّيطرة على الميليشيات ونزع سِلاحها وإعادة هيبة الدولة وحصر السّلاح في يد الجيش العِراقي والأجهزة الأمنيّة فقط، ويحظى بدعمِ قطاعٍ من الشّعب العِراقي من ضمنه الحِراك الشّعبي الذي ضاقَ ذرعًا بالنّفوذ الإيراني، حسب أدبيّات رُموزه، ويرى في الوجود الأمريكيّ ضِمانةً للاستِقرار، والخُروج مِن الأزَمَات الطّاحنة التي تعيشها البِلاد، وأبرزها الأزَمَة الاقتصاديّة.
التعهّد الذي وعد به السيّد الكاظمي أصدقاءه الأمريكيين، وآخرهم مايك بومبيو وزير الخارجيّة بوقف إطلاق الصّواريخ على السّفارة والقواعد الأمريكيّة في العِراق يبدو صعب التّحقيق في ظِل فوضى السّلاح أوّلًا، وتغلغل نُفوذ الحشد الشعبي وفصائله المدعوم إيرانيًّا في النّسيجين السياسيّ والطائفيّ في العِراق وامتِلاكه القُدرة العسكريّة والعقيدة القِتاليّة العالية جدًّا.
***
العُلاقة بين رئيس الوزراء الحالي الذي استلم منصبه قبل شهرين فقط بعد إسقاط ثلاثة مُرشّحين قبله، وفصائل الحشد الشعبي المُوالية للجار الإيراني لم تَكُن جيّدةً على الإطلاق، بل مُتوتّرةً، خاصّةً مع “حزب الله” فرع العِراق الذي اتّهمه رئيسه أكثر من مرّةٍ بالتّواطؤ مع الجيش الأمريكيّ عندما كان رئيسًا لجِهاز المُخابرات، وتسريبه معلومات عن تحرّك الرّاحلين قاسم سليماني رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وأبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العِراقي، ممّا أدّى إلى اغتِيالهما بطائرةٍ أمريكيّةٍ مسيّرة بعد مُغادرتهما مطار بغداد في 3 كانون الثاني (يناير) الماضي.
قوّات مُكافحة الإرهاب التي باتت تُشَكِّل الذّراع العسكريّ الذي يستند إليه السيّد الكاظمي في حربه على “فوضى السّلاح” وحلّ الميليشيات “الخارجة عن القانون” وسيطرة الدولة حسب وصفه، تلقّت تدريباتها العالية المُستوى على أيدي خُبراء الجيش الأمريكيّ، ومن أجل هذه المُهمّة، أي إشعال فتيل المُواجهة مع الحشد الشعبي وفصائلهم.
الدعوة التي وجّهتها الإدارة الأمريكيّة إلى السيّد الكاظمي لزيارة واشنطن، ولم تُقدّم مِثلها لأيٍّ من نُظرائه العِراقيين السابقين، يبدو أنّها جاءت مشروطةً بنجاحه في “اختِبار” القضاء على الحشد الشعبي ونزع السّلاح “غير الشّرعي”، ووقف القصف الصّاروخيّ للسّفارة والقواعد الأمريكيّة على الأراضي العِراقيّة، ويبدو أنّ هذه الشّروط صعبة التّحقيق، إن لم تَكُن مُستحيلةً، ومِن غير المُستَبعد أن تتأجّل، بل ربّما تُلغى هذه الزّيارة، في ظِل حالة التوتّر التي تسود العِراق حاليًّا، والأُخرى الأهم التي تسود العُلاقات الأمريكيّة الإيرانيّة.
الصّراع على النّفوذ في العِراق إيراني أمريكي بالدّرجة الأولى، وبينما وجدت الولايات المتحدة في السيّد الكاظمي حليفًا قويًّا لها، ووعدته بالمُساعدات الماليّة والدّعمين السّياسيّ والعسكريّ، في حال نجح في تحقيق الأمن، والاستقرار، وحِماية مصالحها في البِلاد، فإنّ إيران تملك قوّةً ضاربةً تتمثّل في فصائل الحشد الشعبي التي اكتسبت خبرةً قتاليّةً عاليةً في الحرب ضِدّ الدولة الإسلامية (داعش)، وباتت تشكّل قدرةً عسكريّةً عالية المُستوى، وأصبحت قوّةً ضاربةً على غِرار “حزب الله” في لبنان، و”أنصار الله” في اليمن، وحركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في قِطاع غزّة، وتُشَكِّل أحد أذرع محور المُقاومة الأقوى في المِنطقة.
الإدارة الأمريكيّة الحاليّة صعّبت مَهمّة السيّد الكاظمي بإصرارها على بقاء القواعد والقوّات الأمريكيّة في العِراق، بل وتعزيزها، تحت ذريعة مُحاربة الإرهاب، وقدّمت بذلك الذّخيرة “القاتََلة” لخُصومه في فصائل الحشد الشعبي، خاصّةً أنّ هُناك قرارًا صادرًا عن البرلمان العِراقي المُنتخب يُطالب جميع هذه القوّات بالرّحيل فَورًا.
أمريكا تتحمّل المسؤوليّة الأكبر في حالةِ الفوضى الزّاحفة على العِراق، وتحويله إلى دولةٍ فاشلةٍ على غِرار ما حدث في ليبيا واليمن، وبدرجةٍ أقل سورية، ومن غير المُستَبعد أن يكون هذا الهدف الرئيسيّ لوجوده العسكريّ في العِراق في أكثر من 12 قاعدة عسكريّة، فنُهوض العِراق واستِعادته لدوره القِياديّ في المِنطقة خطٌّ أحمر أمريكي إسرائيلي.
***
الأمريكان خسروا أكثر من 6 تريليون دولار في حُروبهم على أرض العِراق، واحتِلاله، ولهذا يُريدون البقاء في مُحاولةٍ يائسةٍ لتعويض هذه الخسائر، والهيمنة على النّفط العِراقي وعوائِده بصُورةٍ أو بأُخرى.
لا يُمكن أن ننسى استِشهاد أكثر من مِليونيّ عِراقي في هذه الحُروب الأمريكيّة، سواءً في الحِصار الظّالم الذي استمرّ 13 عامًا، أو أثناء وبعد الغزو والاحتِلال الأمريكيين، إنهاء النّفوذ الإيراني في العِراق يجب أن يتم بعد إنهاء النّفوذ الأمريكيّ أوّلًا، وليس قبله، لأنّ الأخير هو سبَب كُل مصائب العَراق وشعبه العظيم السّابقة واللّاحقة، ومن يقول غير ذلك يُجافِي الحقيقة، وكُل دورس التّاريخ الحديث.
إيمانويل ماكرون رئيس فرنسا حذّر من “سورَنَة” ليبيا، ولا نستغرب أو نَستبعِد انطِباق هذا التّوصيف أيضًا على العِراق في المُستقبل القريب للأسف، ولا نُريد أن نزيد مِن جُرعة التّشاؤم ونطرح توصيفًا ربّما يكون أكثر دقّةً وهو “يمْنَنَة” العِراق.. واللُه أعلم.
أرسل تعليقك