عبد الباري عطوان
لم يُفاجِئنا، ولا الحُكومة المِصريّة، بطبيعة الحال، التّصريح الذي أدلى به سيليشي بيكيلي وزير الطاقة والري الإثيوبي اليوم، وأعلن فيه فشل المُفاوضات الثلاثيّة التي انعقدت تحت مظلّة الاتحاد الإفريقي واستمرّت 11 يومًا بحُضور مُراقبين من الاتّحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكيّة وإفريقيا لسببٍ بسيطٍ لأنّ إثيوبيا تستغلّ مِثل هذه المُفاوضات لكسبِ الوقت، والضّرب بعرض الحائط بالمطالب المِصريّة والسودانيّة بالحِفاظ على حُقوقهما المشروعة في مِياه النيل.
ما يدعم هذا الرأي إظهار صور لأقمار صناعيّة تابعة لوكالة الفضاء الأوروبيّة تُوثِّق بَدء السلطات الإثيوبيّة بمَلء خزّان سد النهضة بالمِياه أثناء انعِقاد المُفاوضات بحُضور وزراء الري في الدول الثّلاث المعنيّة، ودون أيّ احترامٍ لجنوب إفريقيا التي ترعى هذه المُفاوضات.
الحُكومة الإثيوبيّة أعلنت أكثر من مرّةٍ، وبطريقةٍ استفزازيّة، أنّها لن تُخطِر مِصر والسودان بنواياها في مَلء الخزّان، فهذه مسألة سياديّة، وهدّد رئيس هيئة أركان جيشها بأنّ قوّاته على درجةٍ عاليةٍ من الجاهزيّة للدّفاع عن السّد في مُواجهة أيّ ضربات مِصريّة.
***
سيناريوهات “تضييع” الوقت، بإشغال مِصر والسودان في مُفاوضاتٍ عبثيّةٍ الواحدة تِلو الواحدة ستستمر، لأنّه مِن المُفترض أن يُقدّم الوزراء الثّلاثة المُشاركين فيها تقارير إلى رؤسائهم الذين سيُشاركون في قمّةٍ مُصغّرةٍ تحت رعاية الرئيس الجنوب الإفريقي في الأيّام القليلة المُقبلة، لا نعتقد أنّ هذا الرئيس سينجح حيثُ فَشِل الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب أحد أبرز حُلفاء إثيوبيا.
نُدرك جيّدًا أنّ السلطات المِصريّة، عندما تستمرّ في هذه المُفاوضات العبثيّة، تُريد طرق جميع الأبواب، واستِنفاذ كُل الوسائل الدبلوماسيّة المُتاحة، بِما في ذلك الذهاب إلى مجلس الامن الدولي، لتبرئة نفسها من أيّ لومٍ في المُستقبل في حالة اللّجوء إلى الخِيار العسكري كحلٍّ أخير، ولكن ونظرًا لإساءة فهم إثيوبيا لهذا الموقف “البراغماتي” الذي يَعكِس رغبةً في تجنّب الحرب وتبعاتها، وتصرّفها بكلّ غطرسة وتعالٍ، فإنّ مِصر مُطالبةٌ بالرّد القويّ الذي يتناسب مع مكانتها وثُقلها الإقليمي، وإرثها الحضاري.
فعندما تتحرّك السلطات المِصريّة، التي تملك تاسِع أقوى جيش في العالم، فإنّ الآخرين يُدركون معنى هذا التحرّك، والنّتائج التي يُمكن أن تترتّب عليه، ودليلنا أنّ الهُجوم الذي كان وشيكًا على سرت الجفرة في ليبيا تراجع فورًا بعد إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء حُضوره عرضًا عسكريًّا في قاعدة سيدي براني قُرب الحُدود الليبيّة بأنّ هاتين المدينتين (سرت والجفرة) خطٌّ أحمر، وجُزء أساسي مِن الأمن القومي المِصري لا يُمكن السّماح باجتِياحهما ولا نَستبعِد أن تكون الطائرات التي هاجمت قاعدة “الوطية” الجويّة جنوب غرب ليبيا وضربت منظومات دفاعيّة تركيّة فيها بطائراتٍ مِصريّة، من نوع رافال الفرنسيّة المُتطوّرة.
صحيح أنّ مِصر تُعطي أولويّةً إلى التّهديد القادم لأمنِها القومي من ليبيا لأنّه يتقدٍم على نظيره الإثيوبي، لأنّ ملء الخزّان يحتاج إلى ثلاث سنوات، حسب التّقديرات الإثيوبيّة، ولكنّ الانتظار وحده لا يكفي، ويجب التّعاطي معه بالدرجة نفسها من الاستعداد والأهميّة، مِثل أن تُوجّه القِيادة المصريّة إنذارًا لإثيوبيا بأنّ تجويع 4 ملايين عائلة مصريّة “خطٌّ أحمر” أيضًا، وأنّ مِصر لا يُمكن أن تُسقِط الخِيار العسكريّ مِن حِساباتها للدّفاع عن أمنها القومي المائي، بِما في ذلك حِصار إثيوبيا بحَريًّا، ومنع السّفن من الوصول إليها عبر قناة السويس أو باب المندب، إلى جانب إجراءات أُخرى أبرزها ضرب الوحدة الترابيّة والعِرقيّة الإثيوبيّة الهشّة.
ربّما يُجادل البعض داخِل مِصر بأن تراجع مِصر ومكانتها، ودورها الريادي القِيادي، جاء بسبب التّركيز والانشِغال بإرساء قاعدة اقتصاديّة قويّة، ولكن هذا الجدل يُمكن أن يكون صحيحًا في ظِل ظروف طبيعيّة، ويَصلُح لدول في أوروبا الشرقيّة أو الشماليّة مثلًا، وليس في مِصر التي تُواجه أخطارًا من الجِهات الأربع مِن الغرب (ليبيا) والشرق (الإرهاب القادم من سيناء) والشّمال (دولة الاحتلال الإسرائيلي) والجنوب (إثيوبيا وسدّ النهضة).
هيبة مصر العسكريّة هي أم جميع “الهيبات” الأخرى، سياسيّة كانت أو اقتصاديّة، ولا بُد من تعزيزها والحِفاظ عليها، وإذا كان الاختبار الأوّل في ليبيا أعطى ثماره، فمِن المُؤكّد أنّ الحال كذلك سيكون في إثيوبيا، بَل وكُل القارّة الإفريقيّة.
نقولها للمرّة الألف أنّ الخطَر الأكبر الذي يُهدِّد مِصر يأتي مِن الشمال، ومن دولة الاحتلال الإسرائيلي، المُتآمِر الأكبر على أمن مِصر واستِقرارها، ولم تَقُم لمِصر قائمةٌ مُنذ أن صادَقت هذا العدو، ووقّعت معه مُعاهدة سلام، حتّى لو كانت هذه الهُدنة لتجنّب شرّه، والتِقاط الأنفاس، والشّرح يطول.
***
شعَرنا بالصّدمة ونحن نقرأ تصريحات جو بايدن، المرشّح الديمقراطي للرئاسة الأمريكيّة، التي تطاول فيها على مِصر بقوله إنّ الدّعم المالي لها ليس مفتوحًا، أو شيكًّا على بياض، ولم يَصدُر حتى كتابة هذه السطور ردًّا مُفحِمًا له، فأمريكا هي المُستفيد الأكبر من صداقتها مع مِصر، وليس العكس، ولا نعتقد أنّ ثمن “الصّمت” المِصري، أي مِليار ونِصف المِليار من الدولارات سنويًّا، تذهب مُعظمها لصِناعة السّلاح الأمريكيّ، يجب أن يستمر في ظِل سِياسات الخُذلان الأمريكيّة لمِصر، وآخِرها التّواطؤ مع الرّفض الإثيوبي لاتّفاق واشنطن النّهائي لتسوية الخِلاف حول سدّ النهضة، وبتحريضٍ إسرائيليٍّ.
مِصر دولةٌ إقليميّةٌ عُظمى، ويجب أن تستعيد دورها القِيادي في المِنطقة، وأن تَهُز العصا الغليظة في وجه كُلّ المُتآمرين وعلى رأسهم إثيوبيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي، الدّاعم الأكبر لغطرستها، وتهديدها “بتعطيش” أربعة ملايين فدّان مِصري وتحويلها إلى أرضٍ بور.
الدول لا تختار أقدارها، ولا تستطيع الهُروب مِن موقعها الجُغرافي وما يترتّب عليه من تحدّياتٍ، ولا بُد مِن خُروج مِصر من “شرنقتها” وفي أسرعِ وقتٍ مُمكنٍ، وستَجِد الحُكومة المِصريّة مِئة مِليون مُواطن مِصري خلفها إلى جانِب 300 مِليون عربي، ونحنُ نَستثنِي مِن بين هؤلاء المُتهافِتين للتّطبيع مع دولة الاحتِلال، ويُفرِّطون بالقضايا العربيّة والإسلاميّة.
أرسل تعليقك