بقلم - سمير عطا الله
في زمن مضى كانت صفة «البيروتي» أقرب إلى لقب من الألقاب: أكثرية الناس في القرى والمناطق، والباقون قدموا إليها للتو أو تباعاً. وكانت هي مدينة صغيرة لأهلها «الحُضر» من أرباب التجارة واليسر. هكذا قبلها كانت لندن وباريس. فالباريسي ليست دلالة جغرافية، بل مرتبة اجتماعية تعني التأنق في المظهر والطلاوة في المحادثة والمعرفة في شؤون العالم.
بيروت اجتذبت إليها أهل الجبال والسواحل، وسرعان ما ذابوا بين طياتها في هدوء وسرور. وصارت كلمة بيروتي تبتعد في الذاكرة شيئاً فشيئاً، إلى أن أصبحت تعني فقط السكان الأوائل من أهل السُنة الموزعين في غرب المدينة، ولسبب لا أعرفه لم يصلوا شرقها.
في هذه المدينة الرحبة صار كل من فيها بيروتياً. تساوى الجميع في الانتماء والانتساب. وتكفلت المؤسسات الحكومية والتربوية والتجارية في تعميم الهوى. وصرت عندما تقول لبنان، تعني بيروت، أو العكس، تماماً كما تعني القاهرة عندما تقول مصر. صارت المدينة مدينتي. وأنا ممن متعوا شبابهم في التسكع بين شوارعها وحاراتها في النهارات والليالي وأواخرها، والنوم في ذلك العمر خسارة. وكان كل من تلتقيه نسيب. ومن لا تعرفه بالاسم تعرفه بالوجه. أما هو فيعرفك من قبل، فقد شاهدك تتسكع وكأنك تتفقد الشوارع والساحات ومحطات الترام، وكأنها أملاك خاصة، يا سعادة الباشا.
لماذا أحببت بيروت كل ذلك الحب، لا أدري. ربما بسبب هنائها وسماحها. ربما بسبب الثراء البشري الذي كان يتدفق فيها. كل غريب مواطن. كل جريدة بلد. كل مقهى ديوان شعراء وكتاب وصعاليك ولاجئون سياسيون ولاجئون أدبيون، وكل حسناء مارة في الطريق وعد بقصة حب تنتهي في آخر الطريق.
كانت بيروت، كما يقول الفرنسيون «على مقياس الإنسان». واسعة، غير شاسعة. متعددة غير متنافرة، جميلة بغير غطرسة. أرض البسطاء والنبلاء، وخصوصاً العاديين الذين يملأون المنازل الهادئة والمطمئنة. ماذا كان يجمع كل تلك الأمم في ظل كل تلك الطمأنينة؟ قيم أخلاقية واحدة. مستوى أخلاقي واحد. الآن أتساءل كيف تسكعتُ كل تلك الليالي في كل تلك الشوارع من دون أن أصادف مشكلة واحدة.
يقول الصيني الذي يقطن مدينة من عشرة، أو عشرين مليون نسمة، إنه يمضي العمر من دون أن يدري شيئاً عن ثلاثة أرباع المدينة. كبرت علينا كثيراً بيروت. أصبحت مثل مدينة صينية صغيرة لا ندري ماذا يجري في القاطع الآخر منها. وليس لنا نحن «البيارتة» الذين أصبحنا غرباء، سوى التحسر على ديار ليلى. وثريا. وصوفيا (غير لورين). والمقاهي أغلقت. والشوارع مظلمة مثل مصير لبنان. ومصير لبنان لم يكن كالحاً كما هو اليوم.
أصبحت بيروت متباعدة مثل مدينة في الصين. مجموعة مدن، ومجموعة أوطان، ولا دولة...
أرسل تعليقك