بقلم -سمير عطا الله
وسط هذا الجدال العربي والعالمي حول الكتاب الورقي والصحافة الورقية، صدرت عن «دار الفارابي» في بيروت، ترجمة للمقالات الصحافية التي كتبها غابرييل غارسيا ماركيز بين 1974 و1975 تحت عنوان، «بلا قيود». هذه المقالات تناقض كل القواعد الحديثة في الصحافة: مطوّلة غير مختصرة، مليئة بالتفاصيل، وبطيئة. غير أنها تلك الصحافة التي أوصلت ماركيز إلى نوبل الآداب ورُصّعت العام الماضي بأهمّ إعلام المهنة في كل العالم.
هل سيقرأ قارئ اليوم صحافياً مثل ماركيز؟ أنا أكيد من ذلك لأنه في قراءة كل هذه التفاصيل سوف يجد متعة الرواية وطعم الأسلوب، ويدرك ماذا يحرّك التاريخ. ليس صحيحاً أن الإنسان الحديث لم يعد يمتلك الوقت، وأنه يكتفي من معرفة الأحداث وفهمها ببضعة ثوانٍ إخبارية، أو بما تقدّم له الـ«توك شو» من تحاليل. والدليل، الروايات التي تُباع منها ملايين النسخ. الطبعة الأوروبية من الـ«نيويورك تايمز»، كلّها عبارة عن تحقيقات ومقالات مطوّلة. ومع ذلك بلغ عدد مشتركيها رقماً لم تعرفه في تاريخها. إذن، المسألة هي مَن الذي يكتب، وليس حجم المكتوب. تقرأ مقالات ماركيز اليوم كأنك تقرأ في كتاب تاريخي ممتع. تفهم أكثر معنى الأحداث التي مرّت بك كما مرّت بالعالم أجمع. وتتمنى لو أنك قرأتها يومها، بقلم ماركيز. أو قلم مشابه. وتدرك بعد مرور السنين على تلك الكتابات ذلك الفارق الهائل بين التفاصيل والحشو. هكذا يتحوّل العمل الصحافي العابر إلى أدب كلاسيكي يدوم. ولست أعرف بالتأكيد، لكنني واثق بأن كلّيات الإعلام في جامعات الأميركيتين تفرض مراسلات ماركيز دروساً إلزامية. في «من دون قيود»، تبرز مهارة الكاتب رسّام الأشخاص. كيف تحوّل فيدل كاسترو من وجه نحيل شاحب إلى وجه مليء. وكيف أن الزعيم الكوبي الملتحي ظلّت لحيته غير كثيفة طوال عمره، مثل مراهق؛ لأنها لا تنمو.
كان ماركيز ينقّب في التفاصيل بلا تعب وبلا نهاية ومن ثم ينتقي منها ما يكمل لوحته وألوانها. وإذ تبحث عن الصحف التي نشر فيها هذه المقالات، تجد أنها صحف عادية، محدودة التوزيع في كولومبيا. لكنه عمل عليها وكأنه يكتب لأهمّ صحيفة في العالم. إنها قاعدة لا يمكن أن تخطئ، ذلك القول الكريم: «إن الله يحبّ، إذا عمل أحدكم عملاً، أن يتقنه».
إذا أردنا للصحافة الورقية أن تبقى، وللرقمية أن تزدهر، ما من فلسفة جديدة. لم يتغيّر شيء منذ أيام هيرودوتس الذي يُقال إنه أول صحافي في العالم: مثل ماركيز، جاب البلدان وقابل الناس وعمل حتى اللحظة الأخيرة كأنه يعدّ مقالته الأولى.
أرسل تعليقك