ظلت وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الحكومة في إيران تتساءل خلال الأسبوعين الماضيين، أو نحوهما، على أفضل سبل التعامل مع أنباء الانتفاضات الشعبية العارمة التي يشهدها كل من لبنان والعراق.
كان الخط الرسمي، في المرحلة الأولى، يدور حول أن الاحتجاجات تعبير عن الغضب الشعبي الواضح من الأداء الاقتصادي الضعيف للغاية والخدمات العامة المزرية. وعكس الخطاب الراهن التغطية الإعلامية للاحتجاجات الشعبية التي اندلعت العام الماضي في الجمهورية الإسلامية نفسها. وكان من غير المتصور لدى الزمرة الإيرانية الحاكمة، أن «الشعب الإيراني»، وهي لفظة جامدة جرداء من أي معان حقيقية، لا يقدر آلاء وبركات النظام الحاكم، ناهيكم عن الاحتجاج عليه والتمرد ضده. وجاءت المرحلة الثانية لتصور الاحتجاجات بأنها مؤشر على فشل السلطات في الاستجابة الإيجابية للمتطلبات والمظالم الشعبية. وفي المرحلة الثالثة الراهنة، صُورت الاحتجاجات من واقع أنها نتيجة لمؤامرات خبيثة من «أعداء الإسلام»، بما في ذلك الصهاينة المعتادون وعملاء الشيطان الأميركي الأكبر.
وبالتالي، أسدت وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية النصح للحكومة اللبنانية في بيروت والحكومة العراقية في بغداد بسحق الاحتجاجات باستخدام كافة الوسائل الضرورية المتاحة، حتى أن أحد الدعاة العراقيين المؤيدين للنظام الإيراني أسدى النصح لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي بقتل «قادة الفتنة» الذين تجمعوا في أحد مطاعم بغداد. ودعت صحيفة «كيهان» اليومية الإيرانية، المعروف عنها نقل آراء المرشد الإيراني علي خامنئي، إلى اتخاذ التدابير الصارمة ضد الاحتجاجات الجارية في لبنان قبل أن تتحرك وحدات من مقاتلي الشوارع من تنظيم «حزب الله» للهجوم على قاعدة المحتجين في العاصمة بيروت.
يبدو لأي شخص يتابع التغطية الإعلامية الرسمية للأحداث الجارية أن يكشف حالة الذعر الراهنة المتفشية في طهران. ماذا لو أننا نشهد نسخة من الثورات الطرفية التي كانت بمثابة الزلزال العارم الذي ضرب الإمبراطورية السوفياتية في البلدان التابعة لها في أوروبا الشرقية والوسطى؟
على مدى سنوات، كانت طهران تحاول التسويق لاستراتيجيتها التوسعية في منطقة الشرق الأوسط على اعتبارها من أبرز نجاحات الجمهورية الإسلامية السياسية حتى الآن بشقيها الثوري والقومي على حد سواء. وفي مقابلة شخصية أجريت قبل وفاته ونُشرت بعدها، تباهى الجنرال الراحل حسين همداني، القائد الأسبق لـ«الحرس الثوري» الإيراني، بأنه هو الذي أنقذ الرئيس السوري بشار الأسد من الهزيمة والوفاة في الوقت الذي كان يحزم الرئيس السوري حقائبه استعداداً للفرار من البلاد. وبرغم ذلك، أشار الجنرال همداني في حديثه أنها المرة الأولى منذ القرن السابع الميلادي التي تصل فيها الجيوش الإيرانية إلى البحر الأبيض المتوسط في عهد الملك الفارسي كسرى الثاني قبل الإسلام.
تردد صدى هذا الخطاب السياسي بين ثنايا الروايات الإيرانية بشأن اليمن. إذ قيل للإيرانيين في تاريخهم إنه في عهد الملك الساساني كسرى أنوشروان، تمكن الجيش الفارسي تحت قيادة الجنرال وهراز من الوصول إلى اليمن لطرد وتأديب الغزاة من الحبشة. واليوم، تضطلع إيران بمهمة مماثلة ولكن عن طريق إرسال الأسلحة والأموال والمستشارين إلى الحركة الحوثية! أما بالنسبة إلى العراق، لا تملك الجمهورية الإسلامية حق التدخل فحسب، وإنما تتحمل المسؤولية والواجب في حماية الطائفة الشيعية العراقية والأكراد العراقيين على اعتبار أنهم أفراد في «العائلة الإيرانية العظيمة».
وبالنسبة إلى لبنان، كان الدور القيادي للجمهورية الإسلامية يتمثل هناك في الاستمرار الطبيعي للعلاقات التي بدأت أول الأمر باستيراد حفنة كبيرة من ملالي المذهب الشيعي اللبنانيين وإرسالهم إلى إيران بدءاً من القرن السادس عشر الميلادي، الأمر الذي ساعد على تحول إيران إلى اعتناق المذهب الشيعي من الإسلام تحت حكم الدولة الصفوية القديمة.
وما من شك في أن هذه الاستراتيجية الخمينية الكبيرة قد لاقت قدراً معتبراً من النجاحات الأولية، إذ تمكنت طهران من توسيع نفوذها وسيطرتها على بضعة مواضع في الشرق الأوسط بالحد الأدنى من التضحيات والدماء، حتى أن الأموال التي أنفقت في تأمين إقامة الإمبراطورية الإيرانية الزائفة في الشرق الأوسط لم تكن كبيرة للغاية. وتشير أفضل التقديرات الواردة أن الإنفاقات الإيرانية بغية تأمين موطئ قدم مهيمن في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن بلغت نحو 40 مليار دولار على مدار الأربعين سنة الماضية. هذا، وقد قارنت صحيفة «كيهان» الإيرانية هذا المبلغ بالتريليونات الثمانية التي قال الرئيس دونالد ترمب إن حكومة الولايات المتحدة قد أنفقتها في الشرق الأوسط لتخرج منها بعد ذلك خالية الوفاض، على حد وصف الصحيفة.
سقط ملالي طهران في خطأ فادح أثناء محاولتهم الحثيثة لبناء الإمبراطورية الجديدة: لقد حالوا تماماً دون ظهور السلطات المحلية الحقيقية، بما في ذلك الجيوش الوطنية التي يمكنها السيطرة على الأمور في مرحلة من المراحل بأسلوب شبه مستقل. ولقد فعل البريطانيون ذلك بقدر من النجاح في الهند، حيث عززوا من وجود عدد كبير من القادة والزعماء المحليين الذين يتمتعون بقدر لا بأس به من الشرعية المحلية في حين كان أمن شبه القارة الهندية يستند بالأساس إلى جيش نظامي يتألف إلى حد كبير من الأقليات المحلية و/ أو العرقية و/ أو الطائفية. نتيجة لذلك، تحولت الأجهزة الرسمية للدولة في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن إلى مجرد واجهات جوفاء تُخفي السلطة الحقيقية التي تمارسها الجماعات والميليشيات مثل «حزب الله»، و«الحشد الشعبي»، والزينبيين، والحوثيين.
وبالإشارة إلى الهجوم الأخير على المنشآت النفطية السعودية، سمع الحوثيون عن دورهم الخيالي في تلك العملية الإرهابية من وسائل الإعلام الأجنبية نقلاً عن المصادر الرسمية الإيرانية التي لم تُكلف نفسها عناء إخبار الحوثيين أنهم سوف يُستخدمون باعتبارهم مخططي الهجوم ومنفذيه قبل نشر تلك المزاعم الكاذبة عبر مختلف المنافذ الإعلامية العالمية.
وفي عام 2017، صرح الجنرال إسماعيل قاآني، الرجل الثاني في «فيلق القدس» تحت قيادة الجنرال قاسم سليماني، أمام ندوة لـ«الحرس الثوري» الإيراني أن القوة الحقيقية في كافة البلدان ذات الأهمية للجمهورية الإسلامية تقع في أيدي قوى المقاومة ذات الصلات الوثيقة بالثورة الإسلامية. ولقد أعرب قاسم سليماني بنفسه عن ذلك المعنى بصورة أكثر وضوحاً في أول مقابلة شخصية له على الإطلاق بأنه لم يعترف أبداً بوجود أي شيء يشبه وجود الدولة في لبنان.
وهذان بطبيعة الحال، مجرد تكرار للتجربة ذاتها التي خاضتها الجمهورية الإسلامية بنفسها حيث توجد الهياكل الرسمية للدولة، بما في ذلك مؤسسة الرئاسة، ومجلس الوزراء، والوزارات المختلفة، والبرلمان، وحتى الجيش النظامي الإيراني، ولكن على اعتبار أنها واجهات موازية للهياكل الحقيقية سيئة السمعة بالدولة العميقة والتي تمارس سلطات الحكم الحقيقية.
كانت الإمبراطورية السوفياتية قد أنشأت مخططاً مماثلاً في البلدان التابعة لها، حيث كانت الأحزاب الشيوعية هي أكثر قليلاً من مجرد واجهة موازية. وأخذ هذا المخطط في الانهيار عندما بدأت دُمى النظام، بما في ذلك قادة بعض الأحزاب الشيوعية المحلية، في الاستقالة أو حتى الانضمام إلى أحزاب المعارضة.
ومن شأن الأزمة الراهنة في لبنان والعراق أن تأخذ نفس المسار. وعلى غرار الاتحاد السوفياتي المذعور، ربما يحاول النظام الخميني إيقاف مسيرة التاريخ بالقوة. وإن كان الأمر كذلك، فسوف يفشل النظام الخميني تماماً كما فعل الاتحاد السوفياتي مع بلدانه التابعة من قبل. وبرغم ذلك، فإن التغيير الإيجابي قد يصير أكثر احتمالاً إذا ما وجد أولئك الذين يشكلون واجهة السلطة في البلدان المعنية وكانت لديهم الشجاعة الكافية للتنحي وإخلاء الساحة أمام وكلاء الجمهورية الإسلامية للاضطلاع بالمسؤوليات الحقيقية التي يتمتعون بممارستها من وراء الكواليس.
أما بالنسبة إلى الحركة الحوثية، وزمرة بشار الأسد، و«حزب الله» اللبناني، و«الحشد الشعبي» العراقي، فهي مجرد وكالات عابرة ودُمى مذعنة في عرض سريالي من تأليف سادة العرض المسرحي المجهولين في طهران. وقيامهم بأدوارهم حال التخفي والاختباء وراء الدُمى والعرائس، مع لعب دور الرئيس و/ أو رئيس الوزراء، يجعل من الأمر برمته كمثل الرحلة السخيفة إلى أرض الكوابيس. وقبل أكثر من ألف عام، أشار الوزير «نظام الملك» - قوام الدين أبو علي الحسن بن العباس الطوسي، وكان وزيراً لألب أرسلان ومن أشهر وزراء الدولة السلجوقية - إلى أن ما يبدو قانونياً ليس بالضرورة أن يكون شرعياً، وأن الوجود في زمرة الحكم من دون اعتلاء سدة السلطة الحقيقية يتمخض عنه أسوأ أشكال الاستبداد قاطبة.
أرسل تعليقك