في البكاء الزائف على بيروت ولبنان
آخر تحديث GMT06:28:45
 العرب اليوم -

في البكاء الزائف على بيروت ولبنان

في البكاء الزائف على بيروت ولبنان

 العرب اليوم -

في البكاء الزائف على بيروت ولبنان

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

تباكى على بيروت، وعلى لبنان، كثيرون من أولئك الذين نعرفهم جيّداً. أولئك الذين سرقوه وأولئك الذين تعاقبوا على حكمه بطريقة أقرب إلى السرقة ممّا إلى السياسة. أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله، كان الاستثناء الأبرز بين رموز السلطة بالمعنى الواسع لكلمة سلطة. حتّى التظاهر بالبكاء لم يجد مبرّراً له. لقد شغله الاحتفال بذكرى ما سماه «انتصار حرب تمّوز». همُّه دائماً في مكان آخر. ضحكته غطّت وجهه.

خارج دائرة السلطة، وفي العالم العربي أيضاً، شارك في البكاء كثيرون صادقون، وكثيرون كاذبون. الكاذبون هم الذين لم يَكنّوا للبنان أي ودّ، ولم يروا فيه مرّة أكثر من مَعبر إلى هدف آخر وإلى قضيّة أخرى.

هؤلاء رفضوا المعنى الذي رمز إليه لبنان الفكرة، أي افتراض أنّ التقدم يأتي من التعدّد، ومن الصلة بالعالم الخارجي، خصوصاً الغرب الديمقراطي، ومن محاولة الاقتداء بالديمقراطية البرلمانية، مع الحرص على تجنّب الانجراف العسكري المباشر في النزاعات الحربية. في هذه الخانة، يمكن أن نضيف إلى ما مثّله هذا اللبنان تطوّرات متفاوتة ومؤسّسات عرفتها المنطقة في تاريخها الحديث، كالبرلمانات والإدارات التي نشأت وعاشت إلى أن أطاحتها الانقلابات العسكرية، وقبلها شقّ قناة السويس أو إنشاء جامعة أميركية في بيروت. وبالطبع تندرج في الخانة إيّاها الثورات العربية الملوّنة التي طلبت، وما زالت تطلب، الحرية والكرامة الإنسانية.

خصوم هذا المفهوم تبنّوا مفهوماً آخر للتقدّم مفاده أنّ مناوأة الغرب و«التبعيّة» هو المدخل إلى المستقبل والمعنى. لبنان «المتغرّب» بدا لهم شيئاً كريهاً. ألم الشعب الفلسطيني عثروا فيه على ضالّتهم لاستئناف صراع دهري يأبى الحلّ ويحتقر السياسة. أنظمة الاستبداد الأمني التي تعسكر المجتمع وتصبّه في قالب واحد مُحكَم، وفي هويّة نهائيّة ناجزة، بدت لهم شيئاً يتراوح بين التمجيد والتحمّل: بعضهم مجّدها كأداة للخلاص، وبعضهم تحمّلها كضريبة ينبغي دفعها لبلوغ الخلاص. في الحالات جميعاً، كانت هذه الأنظمة مصدر الرصاص الذي يُطلق على لبنان.

منذ نشأة البلد أعلنت تلك العواطف عن نفسها بلا تمويه. في 1925، إبّان انتفاضة سلطان باشا الأطرش في جنوب سوريّا، عبّر عنها خير تعبير «الشاعر القرويّ» رشيد سليم الخوري، العروبي المتحمّس، الذي لم يَرقْه استنكاف اللبنانيّين عن القتال إلى جانب الأطرش:
«لبنان يا لبنان بل ما ضرّني
لو قلتُ يا بلداً بلا سكّانِ».
وهو، للسبب هذا، تمنّى «لأهله»، أهل لبنان:
«الموت المعجّلْ
بحدّ السيف من أيدي الأعادي».
وبسبب طبيعتها الملتهبة، وجدت هذه النزعة أهمّ ملاجئها في الشعر. في 1950 مثلاً، وفي رثائه السياسي اللبناني عبد الحميد كرامي، لم يجد الشاعر العراقي محمّد مهدي الجواهري ما يقوله أفضل من هجاء البلد الذي انتمى إليه كرامي. لقد هجا «عصابة»
«ينهى ويأمرُ فوقَها استعمارُ
واستنجدتْ، ودمُ الشعوب ضمانُها
ورفاهُها، فأمدّها الدّولارُ».

الجواهري الذي عُدّ لسنوات مديدة صديق الحزب الشيوعي العراقي، قضى سنواته الأخيرة في دمشق مادحاً حافظ الأسد. شعوب المنطقة كلّها تتعطّش اليوم لـ«الدولار».

لقد نافست الأشعارَ هذه سخرية بدائية من التحدّث بلغات أجنبية، ومن حريات نسبية حظيت بها المرأة اللبنانية فأُخذت عليها كمأخذ أخلاقي، ومن رخاوة يأنفها الطبع العسكري، وطبعاً من بعض رموز البلد ووطنيّته التي تشبه رموز سائر البلدان، لا هي أفضل منها ولا هي أسوأ. الكلام عن نموذج تعدّدي في الشرق الأوسط يناقض النموذج الإسرائيلي لم يُثر إلاّ القهقهة.

أبعد من السخرية والأشعار كانت الأفكار. أهمّ تلك الأفكار أنّ الانتخابات والحريات والتعليم ومدى حضور الطبقة الوسطى أمور لا تستحقّ أن تُحسَب. ما يُحسَب هو العبور من «الساحة اللبنانية» إلى مكان آخر: قبلاً إلى «تحرير فلسطين»، ولاحقاً إلى نصرة نظام الأسد في سوريّا. جيشان أريد لهما أن يتمركزا في «هانوي العرب»، المقاومة الفلسطينية في الستينات والسبعينات، ثمّ «حزب الله» منذ الثمانينات. أن يتّفق اللبنانيّون على ذلك أو أن يختلفوا ليس مهمّاً، فلبنان ليس إلاّ الوسيلة التي تبرّرها غاية القتال.

لكنّ البلد الصغير شكّل مصدراً لإرباك مزدوج ألمّ بهذا الصنف من كارهيه: ذاك أنّ الذين يرفضون السلاح ليسوا حفنة عملاء وجواسيس، حسب ما يقوله الكلام السهل. إنّهم أكثريّات شعبية تستند مواقفها إلى خيارات صلبة في السياسة والتاريخ ورؤية المستقبل. ثمّ إنّ كراهية لبنان لا تحول دون تفضيله مكاناً للعيش، وبعض العيش هو الفرصة المتاحة للتعبير عن تلك الكراهية. والحال أنّ أكثر الأفكار بؤساً هي التي تعتبر العيش عاملاً لا يُحسب مُفضّلة، لأسباب آيديولوجية، البلدان التي يهرب منها المعارضون (ألمانيا الشرقية والاتّحاد السوفياتي السابقان وكوريا الشماليّة والصين وروسيا اليوم) على البلدان التي يهربون إليها. طلب الحرية وطلب العلم أو العمل أمور لا تستوقف الآيديولوجيّين.

وبالفعل كانت تلك الكراهية آيديولوجيّة بقدر ما كانت بائسة. تباكيها اليوم بائس بدوره، إلاّ أنّ حظّها كبير: فبعدما هزمت ثورة الحرية في سوريا، هزمت حصن الحرية في لبنان. ونحن الآن جميعاً سواسية في الخراب العميم كأسنان المشط. لكنّنا بالتأكيد سنحرّر فلسطين!

 

syria

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في البكاء الزائف على بيروت ولبنان في البكاء الزائف على بيروت ولبنان



GMT 17:14 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

مئويتان

GMT 18:18 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الفرزدق وجرير وأبو تمام

GMT 13:36 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 17:58 2021 الجمعة ,05 شباط / فبراير

ما في أنفسهم

GMT 09:58 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الأسد 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2020

GMT 12:34 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يحذرك هذا اليوم من المخاطرة والمجازفة

GMT 12:55 2019 الثلاثاء ,22 كانون الثاني / يناير

التحالف" يبلغ "قسد" ببقائهم في دير الزور حتى القضاء على داعش"

GMT 09:12 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الذهب في سورية اليوم الثلاثاء 6 تشرين الأول / أكتوبر 2020

GMT 20:38 2019 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إفلاس 5 شركات في ظل الأزمة الاقتصادية التركية

GMT 08:15 2019 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

لوحات تحكي بلسان الأطفال في معرض لون وحب لسناء قولي

GMT 00:33 2019 الأربعاء ,11 أيلول / سبتمبر

زلزال بقوة 5.7 درجة يضرب خليج ألاسكا

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 12:35 2018 الإثنين ,24 كانون الأول / ديسمبر

وزيرة التخطيط تُنظم مائدة مستديرة لدراسة موقف الفقر في مصر

GMT 16:04 2018 الثلاثاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

10 وزراء يشاركون فى افتتاح المؤتمر الـ 15 للثروة المعدنية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Syria-24 Syria-24 Syria-24 Syria-24
syria-24 syria-24 syria-24
syria-24
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
syria-24, syria-24, syria-24