نعم نحن نحقد ونتخيّل
آخر تحديث GMT06:28:45
 العرب اليوم -

نعم... نحن نحقد ونتخيّل!

نعم... نحن نحقد ونتخيّل!

 العرب اليوم -

نعم نحن نحقد ونتخيّل

بقلم : حازم صاغية

 في 1968 سحقت دبّابات «حلف وارسو» ما عُرف بـ «ربيع براغ». المثقّفون التشيكوسلوفاكيّون نالوا حصّة الأسد من الاضطهاد الذي رعاه «الأمين العامّ» غوستاف هوسّاك، ومن ورائه «الأمين العامّ» الأكبر ليونيد بريجنيف: سجنٌ، رقابة، طرد من العمل، هجرة، يأس، حالات انتحار وحالات طلاق... محنة المثقّفين التشيكوسلوفاكيّين يومذاك، والتي استمرّت لسنوات طويلة، غذّت أعمالاً أدبيّة وسينمائيّة لا تُحصى. كذلك صارت واحدة من أبرز المِحن التاريخيّة والكلاسيكيّة للمثقّفين والنُخب في عالمنا المعاصر.
لبنان، بسبب الدور البارز للتعليم والإعلام والنشر فيه، وهي كلّها من أفضال الحرّيّة علينا، أوكل إلى بيئته الثقافيّة موقعاً مميّزاً. هذا الموقع لم يتحوّل فحسب مصدراً من مصادر اقتصاده ودخله، بل صار بالفعل معادلاً للوطن نفسه، معنى ثانياً له أو دلالة أخرى على وجوده: من دون قدرة على الشكّ والنقد والاختلاف حول كلّ شيء، أي من دون الحرّيّة، لا يعود هناك مبرّر لهذا الوطن، سيّان أقُسّم أو وُحّد، وسيّان أحُرّر أو احتُلّ. هذه تغدو، في الحالة اللبنانيّة، تفاصيل وزوائد.
اليوم تعاني البيئة الثقافيّة في لبنان حصاراً قاتلاً من الصنف التشيكوسلوفاكيّ، ومثلما حصلت المحنة في براغ بعد سحق ثورتها، تحصل المحنة اللبنانيّة بعد ثورتين مضادّتين في سوريّا وفي لبنان تباعاً، لم يتأدّ عنهما إلاّ مزيد من القتل والفقر والضحالة. ومن يدري، فقد يتدهور حصار المثقّفين والمبدعين اللبنانيّين إلى ما هو أسوأ. ذاك أنّ الإمبراطوريّة المنضبطة التي كانها الاتّحاد السوفياتيّ وكتلته قد تكون أرحم من الإمبراطوريّة المنفلتة وقيد التكوين ذات المركز الإيرانيّ. هناك يتسيّد السلاح فوق مصادر أخرى للقوّة والاستبداد. هنا، كلّ القوّة في السلاح لا يجاوره إلاّ العدم: ففي ظلال الإمبراطوريّة إيّاها، يعيش اللبنانيّون كلّهم انهياراً اقتصاديّاً، واستحالة سياسيّة، وانقطاعاً عن العالم، بعدما ضربتهم جريمة شبه نوويّة في مرفأ بيروت. وهذه كلّها تُعاش كما لو أنّها بلا سبب ولا مُسبّب. في المقابل، ثمّة شيء واحد لا نزال نحظى به اسمه المقاومة، يُفترض أن يكافئنا عن فقد كلّ تلك الأشياء الأخرى!
وبالعودة إلى البيئة الثقافيّة تحديداً، نلاحظ أنّه غير بعيد عن حارة حريك، مثوى لقمان سليم، تُقتل الجامعات ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام ودور النشر، كلٌّ منها بطريقة، لكنّها كلّها تلفظ أنفاسها في ظلال الإمبراطوريّة السلاحيّة إيّاها. فلهذه الأخيرة في كلّ واحدة من عمليّات القتل دورٌ، يزيد أو ينقص، وهو قد يكون مباشراً هنا أو مداوراً هناك.
وسط هذه المحنة، ووسط العراء الكامل من كلّ قانون ومساءلة، بدأ مطلب «الحماية الدوليّة» يتردّد في لبنان مصحوباً بضعف الثقة بإمكان تلبيته، ما يضاعف الألم ويضفي عليه مسحة من المرارة.
إعدام لقمان سليم حرّك ذاك المطلب الذي تداولته بيئة المثقّفين والصحافيّين والكتّاب، فأضافته إلى مطالب سابقة كالتحييد والتدويل، وقبلهما المحكمة الدوليّة. ذاك أنّ الشعور الطاغي هو أنّ ما هو محلّيّ لا يحمي: الدولة وقانونها وجهازها القضائيّ فعلوا كلّ ما يلزم لترسيخ القناعة بفكرة كهذه. السوابق أكثر من أن تُحصى.
لقد بات المؤكّد لكثيرين أنّ الحلّ، إذا كان من حلّ، مصدره الخارج حصراً. وهو إن لم يأتِ الآن، ففي غد ما قد يأتي.
وإبّان انتظارهم ذاك الغد، «خان» مثقّفو تشيكوسلوفاكيا «وطن الإشتراكيّة»، دفاعاً عن وطن حرّ بات يتعادل مع ثقافة حرّة. «خانوه» إمّا بالهجرة لمن استطاع أن يهاجر، أو بالنوايا لمن لم يستطع. فالذين ألقي بهم في السجن أو في المصحّ أو في البطالة راحوا يتفنّنون في تخيّل وطن آخر تسوده الحرّيّة ويصنعه قرار التشيكوسلوفاكيّين، لا قرار المركز الأبويّ في موسكو. بعد عشرين سنة سقط ذاك المركز واستعاد أولئك «الخونة» وطنهم وحرّيّتهم. وكثيرون من مثقّفي لبنان اليوم «يخونون» هذه الوطنيّة الخرقاء والمجرمة إمّا بالهجرة، أو بتمنّي الهجرة، ولكنْ أيضاً عبر التفنّن في تخيّل وطن يكون وطناً، تتداعى فيه إمبراطوريّة التخوين وكاتم الصوت.
فالبيئة الثقافيّة تقول اليوم إنّها ليست من عبّاد الوطن حين يغدو الوطن بيتاً للطاعة وعقاباً على الحرّيّة، وليست من عبّاد التحرّر والتحرير حين يغدوان أقصر الطرق إلى التخيير بين العبوديّة والقتل. وفي هذه الغضون تسرح المخيّلات بعيداً، لا يحدّها حدّ من مقدّس زائف ولا فاصل بين داخل وخارج. هنا تخاض المواجهة من أجل الوطن والحرّيّة والثقافة في وقت واحد.

 

syria

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نعم نحن نحقد ونتخيّل نعم نحن نحقد ونتخيّل



GMT 16:13 2021 الخميس ,18 آذار/ مارس

بعض الأخبار من مصر وايران وفرنسا

GMT 19:04 2021 الإثنين ,15 آذار/ مارس

البابا فرنسيس في العراق

GMT 20:02 2021 الجمعة ,12 آذار/ مارس

التراجيديا اللبنانية .. وطن في خدمة الزعيم

GMT 19:25 2021 الثلاثاء ,09 آذار/ مارس

ليبيّات فبراير والصوت النسائي

GMT 20:13 2021 الإثنين ,08 آذار/ مارس

انا والكورونا و المرأة في يومها العالمي

GMT 15:17 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

تجنب اتخاذ القرارات المصيرية أو الحاسمة

GMT 14:56 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

أحوالك المالية تتحسن كما تتمنى

GMT 16:42 2020 الأحد ,01 آذار/ مارس

التصرف بطريقة عشوائية لن يكون سهلاً

GMT 08:55 2019 الثلاثاء ,10 أيلول / سبتمبر

موسكو تعلق على "موت" المفاوضات بين واشنطن وطالبان

GMT 14:09 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

تبدأ بالاستمتاع بشؤون صغيرة لم تلحظها في السابق

GMT 17:40 2018 الجمعة ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

BMW تعيد السيارات الهجينة من جديد بطرح "E 330 " تعرف عليها

GMT 10:21 2018 السبت ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

"جبهة النصرة" تعلن الحرب على الجيشين الروسي والسوري

GMT 11:33 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش المصري يفتتح مجمعًا حضاريًا متكاملًا في وسط سيناء

GMT 16:56 2018 السبت ,27 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الخارجية البريطاني يلتقي بنظيره السويسري

GMT 21:27 2018 الأحد ,03 حزيران / يونيو

طريقة سهلة وبسيطة لإعداد بان كيك بالشوكولاتة

GMT 04:22 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ارتفاع وتيرة تفشي كورونا في مناطق شمال شرقي سورية

GMT 12:51 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

لا تكن لجوجاً في بعض الأمور
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Syria-24 Syria-24 Syria-24 Syria-24
syria-24 syria-24 syria-24
syria-24
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
syria-24, syria-24, syria-24