بدل اللفّ والدوران، لماذا لا يتوجه النظام في إيران إلى ما هو لبّ المشكلة مع الدول العربية المجاورة. لا يزال لبّ المشكلة تصرّفات إيران وسلوكها في الشرق الأوسط والخليج، وحتّى في ما هو أبعد من ذلك.
كان آخر ما أقدمت عليه طهران في مجال اللفّ والدوران توزيع وكالة إيرانية شبه رسمية نبأ يتضمّن كلاما عن متحدث باسم الحكومة الإيرانية. قال المتحدث الرسمي الإيراني إنّ المملكة العربية السعودية بعثت برسائل إلى الرئيس حسن روحاني عبر زعماء دول أخرى. اعتبر المتحدّث الإيراني أنّه “إذا كانت السعودية تسعى حقّا إلى تغيير في السلوك، فإنّ إيران ترحّب بذلك”.
المضحك المبكي في مثل هذا النوع من الكلام أنّه للاستهلاك الداخلي الإيراني لا أكثر. إنّه ابتعاد كامل عن الواقع القائم منذ ما يزيد على أربعين عاما عندما قلبت الثورة الشعبية في إيران نظام الشاه. أُعلن بعد ذلك قيام “الجمهورية الإسلامية” إثر تمكن آية الله الخميني من استبعاد كلّ القوى الليبرالية التي كانت تحلم بإيران جديدة ذات دستور عصري مستوحى من تاريخ نضالات كلّ القوى الحية في المجتمع من أجل قيام دولة مدنية. كان حلم معظم الذين نزلوا إلى الشارع من أجل التخلّص من نظام الشاه أن يكون بلدهم نموذجا لما يفترض أن تكون عليه دول المنطقة، أي دولة عصرية على تماس مع كلّ ما هو حضاري في العالم.
لم تقدّم المملكة إلى لبنان واللبنانيين سوى الخير طوال عشرات السنين. في المقابل، عملت إيران، ولا تزال تعمل من دون كلل، من أجل تغيير طبيعة المجتمع اللبناني ودور لبنان في المنطقة
ما حصل كان العكس. وُلدت دولة قمعية تؤمن بـ”تصدير الثورة”، دولة ذات نظام لا يستطيع العيش من دون نقل أزماته إلى خارج حدوده.
لم يحصل أن اعتدت أي دولة عربية على إيران حتّى تغيّر السعودية أو أي دولة أخرى من دول المنطقة سلوكها تجاه “الجمهورية الإسلاميّة”. على العكس من ذلك، تعمّدت إيران الاعتداء على كلّ من تستطيع الوصول إليه، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من دون سبب غير الرغبة في تمزيق المنطقة وتفتيتها ولعب دور القوّة الإقليمية المهيمنة.
بعيدا عن الكلام الذي لا معنى له والذي ليس لدى إيران أي دليل من أيّ نوع على صحّته، ما الذي فعلته السعودية مع إيران كي يصبح مطلوبا منها “تغيير سلوكها”؟
هل السعودية التي عملت على تسييس الحج وتحويله إلى تظاهرة ترفع شعارات من نوع: “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود”؟ هل السعودية من شجع على قيام ميليشيات مذهبية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وحتّى في البحرين؟ هل السعودية التي خرّبت لبنان وحوّلته إلى بلد شبه منبوذ يعاني حاليا من أزمة اقتصادية عميقة لم يسبق له أن شهد مثيلا لها في تاريخه؟ هل السعودية من شجع على عمليات تطهير ذات طابع مذهبي في العراق؟ هل السعودية التي شاركت في الحرب على الشعب السوري وساهمت في تهجير أكبر عدد من السوريين من منطلق طائفي ومذهبي وبهدف واضح كلّ الوضوح يتمثّل في حماية نظام أقلّوي صار عمره 49 عاما، نظام لا يؤمن سوى بالقمع، حرم السوريين من أي نوع من الحرّية والكرامة؟
لا حاجة إلى تعداد كلّ ما قامت به إيران في السنوات الأربعين الماضية. الأكيد أن ليس السعودية التي لعبت دور الشريك الفاعل في الحرب الأميركية على العراق في العام 2003. من لعب دور الشريك الفاعل للإدارة الأميركية في تلك الحرب كان إيران. من أدخل قادة الميليشيات المذهبية العراقية من إيران إلى العراق كان الدبابة الأميركية التي بلغت قلب بغداد في التاسع من أبريل – نيسان 2003. كان ذلك اليوم نقطة تحوّل على كلّ صعيد في المنطقة إذ انطلقت عملية “تصدير الثورة” مجددا بفضل جورج بوش الابن الذي كان على رأس إدارة أميركية ليس معروفا إلى الآن كيف يمكن أن تُقْدم على حماقة من نوع غزو العراق من دون خطة مدروسة لمرحلة ما بعد الغزو، وذلك على الرغم من كلّ ما ارتكبه صدّام حسين بغبائه المعروف من جرائم كشفت أنه لا يصلح لأيّ موقع سياسي، فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بقيادة بلد مثل العراق؟
تعمّدت إيران الاعتداء على كلّ من تستطيع الوصول إليه، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من دون سبب غير الرغبة في تمزيق المنطقة وتفتيتها ولعب دور القوّة الإقليمية المهيمنة
حتّى في ما يخص الحرب العراقية – الإيرانية بين 1980 و1988، لا يمكن وضع اللوم كلّه على صدّام حسين ولا على الدول العربية التي دعمت العراق في تلك الحرب. لم يكن لتلك الحرب أن تحصل لولا استفزازات إيرانية للعراق، وهي استفزازات ذات طابع مذهبي جعلت الرئيس العراقي، وقتذاك، يتخذ قراره المتسرّع بمهاجمة إيران. هناك جدل طويل عن الظروف التي رافقت نشوب الحرب العراقية – الإيرانية، جدل لا طائل منه. لكن الحقيقة الوحيدة الثابتة أن الحرب ما كانت لتستمر ثماني سنوات لولا العناد الإيراني الذي استنزف كلّ دول المنطقة وخدم أميركا أوّلا. كانت إيران وراء دفع صدّام حسين إلى الحرب مستفيدة، إلى حد كبير، من جهله بالسياسة وقصر نظره وفشله في الانتقال من رجل قروي يؤمن بمبادئ العشيرة والثأر التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالتوازنات الإقليمية والعلاقات بين الدول، إلى رجل مدني.
على الرغم من الاعتداءات الإيرانية الأخيرة على منشآت نفطية سعودية، لا تزال المملكة تفضّل الحلول السياسية مع إيران. وهذا ما عبّر عنه وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان في مقابلته التلفزيونية الأخيرة مع إحدى المحطات الأميركية. هذا لا يعني أن على السعودية تغيير سلوكها، بمقدار ما يعني أنّ على إيران أخذ العلم بأن اللفّ والدوران لن ينفعاها في شيء. هناك عقوبات أميركية بدأت تؤثّر عليها بقوّة، لكنّها ما زالت قادرة على التحايل عليها وإنْ في حدود معيّنة لا تزال محدودة.
في النهاية هل تريد إيران أن تكون دولة طبيعية في المنطقة أم لا؟ لم يوجد من يعتدي على إيران في السنوات الأربعين الماضية. لم تترك “الجمهورية الإسلامية” دولة عربية، من المحيط إلى الخليج، إلّا وسَعَتْ إلى التدخل في شؤونها الداخلية. هل تستطيع “الجمهورية الإسلامية” تغيير سلوكها أم لا؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه ولا سؤال آخر غيره، إلى إشعار آخر.
يبقى لبنان خير مثال على الفارق بين إيران والسعودية. لم تقدّم المملكة إلى لبنان واللبنانيين سوى الخير طوال عشرات السنين. في المقابل، عملت إيران، ولا تزال تعمل من دون كلل، من أجل تغيير طبيعة المجتمع اللبناني ودور لبنان في المنطقة، بعيدا عن كلّ ما هو عربي فيها، بعد نجاحها في تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في البلد…
أرسل تعليقك