على أعتاب عام جديد يقف البعض فى مفترق طرق ما بين الموت والحياة، وكأن جنيناً وُلد من رحم الحزن.. ثم فر هارباً من الجنازة ليحتفل بالميلاد!
الآن ندرك جميعاً أن «حرية الاختيار» ليست مطلقة، كل ما ألفناه من طقوس الحياة ومراسم الموت قد تغير.. كل ما تصورنا أننا نملكه فرَّ من بين أصابعنا، تبدّلت ملامحه: أوراقنا الصفراء تجسّد ذكريات حب الطفولة.. الدمية المنهكة على الأريكة تنتظر الغائب.. جدران البيت التى تتهددنا بالحظر والخوف.. الباب المغلق على سجن اختيار شيَّدنا قضبانه عشقاً فى «حياة» لم نعشها بعد.. «الغد» الذى خططنا له حتى غابت ملامحه.. «الحب» الذى أجّلناه حتى تيبّست مشاعرنا.. حتى «الحلم» الذى انتظرناه أصبح مرهوناً بكلمة واحدة «إيجابى أم سلبى»!.
أنت هنا اليوم موجود فى زمن الغياب الموجع.. انفخ عصاك السحرية ربما تتراقص حيّات البهجة والدهشة.. تحرّرك من ترف الاكتئاب والعزوف عن العطاء.
فتّش عن الحقيقة عارية من مساحيق النفاق الاجتماعى.. أنت هنا «وحدك» تحاور هواجسك ومخاوفك.. الآن فقط صرت «زعيماً لنفسك» فانزع القداسة عن أى زعامة روحية، فقد تغادر الدنيا وحيداً عارياً لا يستر عُريك «نيشان أو لقب أو ورقة بنكنوت أو ختم النسر»!.
أنت مجرد رقم، أو كما قال «محمود درويش»: اسم.. (وهذا الاسم لى ولأصدقائى أينما كانوا.. ولى جسدى المؤقت حاضراً أم غائباً.. متران من هذا التراب سيكفيان، الآن لى متر و75 سنتيمتراً.. والباقى لزَهْرٍ فوضوىِّ اللون، يشربنى على مهل.. ولى ما كان لى: أمسى وما سيكون لى.. واسمى وإن أخطأتُ لفظ اسمى على التابوت لى.. أما أنا -وقد امتلأت بكلِّ أسباب الرحيل- فلستُ لى.. أنا لستُ لى).
لم يعد الندم مجدياً، فلا تراجع شريط الذكريات، كيف أنفقت عمرك؟.. من أحبك أو من طعنك.. لا تهدر ما تبقى بالأسئلة الجارحة.. ربما لو عرف الموت أنك «عاشق»، لتركك غارقاً على شاطئ الحياة.
«الموت مُلهم»، لأنه يحرر أرواحنا من أسر رغباتنا الكسيحة.. يعزف على إيقاع الزمن لحنك الأخير، يكتب بريشة الشجن «كلمة» لا يقوى عليها «مسرور السياف».. الموت يمنحك جرأة المواجهة لتنظر فى المرآة فتتداعى منها الصور، مشاهد متتابعة تسجل مشواراً سقط فيه من راهنت عليه وبقى من لم تكن تعرفه!
الآن، عليك أن تعيد اكتشاف ذاتك، أن تتجاوز هزائمك فخوراً بأنك لم تنكسر، أن تعانق تلك اللحظات النادرة التى ذُقت فيها نشوة الانتصار، وشربت خمر الحب وتسللت من ثوبك الطينى لتسكن جسد الآخر.
الآن، وأنت على رصيف انتظار الموت.. أنت الشاعر والقصيدة، أنت الثائر على المألوف والمعتاد، على أسر القيم والعادات الاجتماعية التى حوّلتك إلى تمثال من شمع لا يشعر إلا بألم الاحتراق.
فكن نفسك.. بحكمتك وجنونك.. الجنون إبداع خاص، يحطم قيود المكانة الاجتماعية ووقار السن.. فلا معنى لأن تثور على أصنام السياسة وتحاصر نفسك بتابوهات صنعناها بأنفسنا لنركع لها.
لا ترفع شعارات العدالة وأنت لم تنصف نفسك.. كم عشت تقدم التبريرات المزمنة لمن صعد على جثتك.. فتصالح مع أخطائك.. نزواتك.. حماقاتك الصغيرة.
كن فيلسوفاً يحول هزائمه إلى نقطة انطلاق «ربما تأتى».. أحياناً نطارد «الموت» بأحلام بعيدة: (الموت لا يوجع الموتى.. الموت يوجع الأحياء!/ أيها الماضى لا تغيِّرنا كلما ابتعدنا عنك!/ أيها المستقبل! لا تسألنا: من أنتم؟ وماذا تريدون منى؟ فنحن أيضاً لا نعرف/ أيها الحاضر تحمَّلنا قليلاً.. فلسنا سوى عابرى سبيل ثقلاء الظل!.. «درويش»).
إن كان هذا آخر كأس.. تمهل لتتذوقه، إن كانت آخر رقصة فلتكن مبهرة، إن كنت تطارد آخر شعاع ضوء فانتظر: ليلة دافئة وفجر يطل بيوم آخر.. كل النهايات مخاض مؤلم لبداية جديدة.
أنت الآن، خارج مدار القسوة والعنف والقبح والتحريم.. أنت الآن «حر» لأن الموت هو الوجه الآخر للحياة..
(والآن أشهد أن حضورك موت..
وأن غيابك موتان/ والآن أمشى على خنجر وأغنى..
قد عرف الموت أنى أحبك/ أنى أجدد يوماً مضى..
لأحبك يوماً وأمضى.. «درويش).
أرسل تعليقك