بقلم - عريب الرنتاوي
استثنائية، وخارجة عن المألوف، تلك الرسالة التي بعث بها الملك إلى مدير المخابرات المعيّن حديثاً، إذ استبطنت جملة من المعطيات والوقائع والتحديات، التي حرص جلالته على إخراجها من دائرة «الهمس» والتكهنات» إلى الفضاء العام، حتى وإن لم تمض رسالته بعيداً في الكشف عن بعض التفاصيل، والبوح بكل ما يجول في خاطره وعقله.
الملك ابتداءً، ربط التغييرات في قيادة أهم جهاز أمني أردني، وربما التغييرات في مواقع أخرى، بـ»المرحلة الدقيقة» التي تواجه الأردن والمنطقة، وما تنطوي عليه من «تحديات جمة وغير مسبوقة... فرضتها عليه المتغيرات الإقليمية والمناخ العالمي العام الفريد والمتوتر»، وبهذا المعنى يمكن القول، أن الملك بدأ الاستعداد لخوض غمار مرحلة استراتيجية جديدة، من عناوينها: صفقة القرن، والمواجهة الأمريكية – الإيرانية، واشتداد حدة التوتر في العلاقات الإقليمية، وما يحيط بنا من أزمات على مقربة من حدودنا، فضلاً عمّا نواجه في الداخل من مهمات وتحديات جسام في السياسة كما في الاقتصاد.
والملك تحدث عن «المحاولات اليائسة التي نلمسها - خصوصاً في الآونة الأخيرة - والهادفة للمساس بالثوابت الوطنية الأردنية، والتعامل معها بفاعلية، وفي التصدي لكل من تسول له نفسه محاولة العبث بالمرتكزات التي ينص عليها الدستور الأردني»، وفي ظني أن هذه الفقرة هي أخطر وأهم ما جاء في رسالته، فثمة من أراد المسّ بهذه الثوابت الوطنية، وثمة من سعى للعبث بالمتركزات الدستورية، وتلكم تعابير لا معنى لها سوى وجود «مؤامرة» و»متآمرين» فالثوابت والمرتكزات الدستورية، تختص بنظامنا السياسي النيابي الملكي والوراثي وآليات انتقال الحكم وتوارثه، ووحدة ترابنا الوطني وسيادة الدولة، وسلطاتنا الدستورية الثلاث من حيث الفصل بينها وعدم السماح بإلغاء إحداها أو ابتلاعها من الأخرى، فهل سنشهد تحقيقات ومحاكمات لكل من تورط في هذه «المحاولات اليائسة»؟.
والملك توقف عند من أسماهم بالباحثين عن «شعبوية رخيصة»، «ممن يستغلون الظروف الصعبة والدقيقة التي نمر بها، والهموم المشروعة... لدى بعض الفئات في مجتمعنا، طلباً لشعبية زائلة، تاركين بذلك أنفسهم، سواءً عن علم أو جهل، عرضة للاستغلال من جهات عديدة لا تريد لنا الخير وتعمل على العبث بأمن الأردن واستقراره»... وأظن الملك لم يتحدث هنا عن «معارضين غاضبين» أو شبان دفعتهم ظروفهم للخروج إلى الشوارع أو الميادين، الملك عنى على نحو لا تخطئه العين، أولئك الذين شغلوا أرفع المناصب في الدولة بمختلف مؤسساتها، قبل أن ترتفع أصواتهم بأعلى الشعارات سقوفاً، وأكثرها تحريضية... أولئك الذين كان يعوّل عليهم أن يكونوا صوت الوطن وسيفه، سيما في الشدائد والمحن وعند المنعطفات الحادة والخطرة، باتوا اليوم عبئاً عليه، وسبباً في إضعاف لحمته ووحدته الوطنيتين... ونأمل ألا تكون تلك «الجهات العديدة التي لا تريد لنا الخير» التي ذكرها الملك، من بين إخواننا في اللسان أو العقيدة.
والملك يكاشف شعبه عبر رسالته المفتوحة لمدير المخابرات، حين لفته إلى وجود «تجاوزات» قام بها نفر من داخل المؤسسة، ممن غلّب المصالح الشخصية - الخاصة على الوطنية - العامة، و»رغم أن مسيرة دائرة المخابرات العامة - فرسان الحق، كانت دوما مسيرة مشرقة ومشرفة، إلا أنها لم تخل- شأنها في ذلك شأن أي مؤسسة او إدارة حكومية أخرى- من بعض التجاوزات لدى قلة قليلة، حادت عن طريق الخدمة المخلصة للوطن وقدمت المصالح الخاصة على الصالح العام، الأمر الذي تطلب حينها التعامل الفوري معه وتصويبه» في إشارة إلى الحاجة للمضي في نهج الإصلاح والمحاسبة والمساءلة الداخليتين، في مؤسسات على هذه الدرجة من الحساسية.
لكن الملك وهو يشدد على اقتران المسؤولية والصلاحية بالمحاسبة والمساءلة، ويلفت إلى خطوات تم أخذها بالفعل، كان شديد الحرص على حماية المؤسسات، مميزاً بين المؤسسة ودورها من جهة، وما يمكن أن يقع فيه بعض قادتها ومنتسبيها من جهة أخرى، وهو حذر من «الوقوع في شرك إصدار أحكام عامة مغلوطة وظالمة وسوداوية حول مؤسساتنا وأجهزتنا أو التشكيك في مصداقيتها أو نزاهتها أو تفاني ونزاهة السواد الأعظم من العاملين فيها وإخلاصهم».
الملك أرادنا، نحن المواطنين، أن نعرف ما يدور من حولنا وفي داخل أروقة صنع القرار، وحتى في «دواخل» مؤسسات على هذه الدرجة من الحساسية، ولولا ذلك، لاكتفى بحديث ثنائي مع مدير المخابرات، أو برسالة ممهورة بخاتم «سري للغاية»، لكنه أراد إشراك الأردنيين والأردنيات بما لديه من معطيات وما نجابهه من تحديات، وما يعترض مسيرتنا من تهديدات.
أرسل تعليقك