موجة التفاؤل التي اجتاحت الفلسطينيين بقرب إنهاء انقساماتهم الداخلية واستعادة وحدتهم الوطنية، يبدو أنها تبددت، أو هي في طريقها إلى ذلك، وما لم يجر تدارك حالة "المراوحة" وتجديد التزام الأطراف بأجندة المصالحة التي جرى التوافق عليها في اجتماعات إسطنبول (24 سبتمبر الفائت)، فإن موجة من "الخيبة" و"الإحباط"، ستحل محل موجة التفاؤل التي لم تدم طويلا على أية حال.
المشهد كما تقرأه "فتح"
من وجهة نظر حركة "فتح"، فإن حركة "حماس" تعتقد أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في وضع "حرج" للغاية، وأن حاجة "فتح" للمصالحة أكبر بكثير من حاجتها هي لها، ولقد أورد إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي للحركة ثلاثة أسباب تدفع الرئيس عباس للتقرب من "حماس": (1) وصول مشروعه السياسي التفاوضي (حل الدولتين) إلى قعر الهاوية... (2) خيانة حلفائه العرب له، وتركه وحيدا "يقلع أشواكه بيديه"... (3) شعوره بـ"الإهانة الشخصية" من قبل شركائه الإسرائيليين والأميركيين، الذين طالما بنى رهاناته عليهم.
بعض خصوم السلطة ومجادليها من الفلسطينيين، يضيفون سببا رابعا لما أورده هنيّة، ويتعلق ببروز اتجاه عربي ـ دولي، لـ "شيطنة" القيادة الفلسطينية واتهامها بالعجز و"التقادم" و"تبديد الفرص"، توطئة على ما يبدو لفرض قيادة جديدة بديلة عنها، تكون أكثر قدرة واستعدادا للتعامل مع "الصفقة" و"الضم" و"التطبيع".
في المقابل، لا تعترف "حماس" أن مشروعها القائم على فكرة "المقاومة"، يعاني مأزقا مماثلا، بعد أن باتت "التهدئة" هي أولوية "حماس" الأولى، وليس "استنزاف العدو"، وبعد أن انتقلت "المقاومة" من منطق الهجوم والاستنزاف إلى موقع "الدفاع" و"الردع"... ما يهم "حماس" على ما يبدو، أنها نجحت في فرض سيطرتها على قطاع غزة والاحتفاظ به لثلاثة عشرة عاما، وهي لها من الحلفاء الإقليميين مثل تركيا وإيران (وقطر)، ما يمكنها من تعويض خسارتها للعمق العربي (الخليجي أساسا).
يتضح من قراءة أوساط واسعة في حركة "فتح"، أن خلافات "حماس" الداخلية، والتي تتمحور حول ملفات ثقيلة من نوع المصالحة والوحدة الوطنية، السلطة والمنظمة، قد تكون سببا في إحباط أحدث محاولة للمصالحة واستعادة الوحدة، لا سيما وأن الحركة مقبلة على "انتخابات داخلية" تحتدم فيها المنافسة على زعامة الحركة وقيادتها، بين رموزها وتياراتها وتوزعاتها الجغرافية المختلفة.
المشهد من زاوية نظر "حماس"
مقابل هذه النظرة، التي تُلقي الكرة في ملعب "حماس"، بحساباتها وتحالفاتها وتوازناتها الداخلية، ثمة نظرة أخرى، تلقي باللائمة عن "المراوحة" و"التعطيل"، على كاهل "فتح" والرئاسة الفلسطينية، ويرى أصحابها أن السلطة لم تغادر "رهاناتها وأوهامها القديمة" بعد، وأن التعطيل مرتبط برغبة الرئيس في التعرف على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في الثالث من نوفمبر المقبل، فإن عاد دونالد ترامب لولاية ثانية، فإن من المرجح أن تعاود السلطة تقربها من "حماس" في مسعى لترتيب البيت الفلسطيني الداخلي لمواجهة الضغوط والتحديات، وإن فاز جو بايدن بالرئاسة، فإن من المنتظر أن تشهد العلاقة الفلسطينية الأميركية انفراجا ملموسا، ذلك أن إدارة ديمقراطية برئاسة بايدن، ستستأنف المساعدات المالية والاقتصادية للسلطة، وستعاود "فتح" مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وستعمل على إحياء مسار التفاوض على قاعدة "حل الدولتين"، وربما تعمل على استئناف العملية التفاوضية التي حملت بصمات بيل كلينتون وباراك أوباما وجون كيري، حتى وإن لم يقدم "بايدن الرئيس" على سحب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وإعادة السفارة إلى تل أبيب بعد أن نقلها ترامب إلى القدس.
ولا تستبعد وجهة النظر هذه، أن يكون للخلافات داخل حركة "فتح"، وتنافس أجنحتها المختلفة على "خلافة" محمود عباس، دور في عرقلة التزام الحركة ببنود اتفاق إسطنبول، حيث تخشى بعض الأطراف المتنافسة أن تعزز المصالحة فرص بعض القيادات الفلسطينية في خلافة الرئيس بالاستناد إلى دعم "حماس" وغيرها من الفصائل والرأي العام التوّاق لإنهاء الانقسام.
ويشكك بعض القائلين بوجهة النظر هذه بـ"نوايا" القيادة الفلسطينية حيال إنجاز "الحلقات المتعاقبة الثلاث" لمسلسل الانتخابات العامة، وتحديدا تلك المتصلة بتنظيم انتخابات للمجلس الوطني، ويجادل هذا الفريق في أن جُلّ ما تريده قيادة السلطة، هو تجديد شرعيتها في انتخابات تشريعية ورئاسية متفق عليها بين "فتح" و"حماس"، لتمكينها من مواجهة الضغوط ومحاولات نزع الشرعية عنها، وبعد ذلك، ينتهي مسلسل الانتخابات، مبقيا على هيمنة "فتح" على مؤسسات المنظمة.
فجوة الثقة العميقة بين الجانبين، تدفع كل طرف للتمسك بما لديه، ولا تحفزه على تقديم أية "تنازلات" ذات مغزى للطرف الأخرى، بل وربما يمكن القول، إن لسان كل من طرفي الانقسام يقول: ما لكم لنا ولكم، وما لنا، لنا لوحدنا، امتدادا لـ"المعادلة الصفرية" التي حكمت العلاقة بينهما في ربع القرن الأخير.
المشهد من الزاوية الإقليمية والدولية
لم يكن الشأن الفلسطيني الداخلي الفلسطيني يوما، داخليا فقط، فهو مفتوح على تطورات الإقليم والحالة الدولية باستمرار، يتأثر بها، من دون أن يتوفر على أدوات للتأثير بها. التطورات المتسارعة في الإقليم، في العام الأخير على وجه الخصوص، بل وطوال العقد المنصرم، تركت وتترك بصمات ثقيلة على علاقات القوى وتوازناتها في المشهد الفلسطيني.
وفي التفاصيل، لا يبدو أن ما يجري على مسار المصالحة والوضع الداخل الفلسطيني من تطورات، يأتي منعزلا عن السياقين الأميركي والإسرائيلي... فصفقة القرن، وتفاقم الميول التوسعية الإسرائيلية (مشروع ضم مناطق واسعة من الضفة الغربية)، أضعفت السلطة و"فتح" إلى أبعد حد، ووجهت طعنة في صميم مشروعها ورهاناتها، حتى بات ممكنا لـ"حماس" "الادعاء" بأن خيارها "المقاوم" قد انتصر.
ولمواجهة حالة الاختلال التي ضربت السلطة، تدخلت دول أوروبية وازنة على خط دعما للسلطة واستمساكا بحل الدولتين، مع مطالبات لها بالعمل على تجديد شرعيتها من خلال الذهاب إلى "صناديق الاقتراع"... وإذ نجحت دول الاتحاد الأوروبي في تمكين السلطة من الحفاظ على توازنها واتزانها، إلا أن دورها السياسي ما زال محدودا، وغير كافٍ لمعادلة النفوذ الأميركي في معادلة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
وازداد مأزق السلطة "عمقا" بعد تسارع مسار التطبيع العربي الإسرائيلي الذي دشنته الإمارات والبحرين، وثمة دول أخرى، تصطف في "قائمة الانتظار"، تتحين الفرصة للالتحاق "الآمن" بقطار التطبيع... هو مسار ترافق من أوسع حملة "الشيطنة" للقيادة الفلسطينية وتحميلها المسؤولية عن "ضياع فرص السلام"، بل وسعيها لإشهار سيف "الفيتو" في وجه أي محاولة عربية للتقرب من إسرائيل، خدمة لأولويات هذه الدول ومصالحها، الأمر الذي شكل عامل ضغط وإضعاف كبير للسلطة.
وإذا كانت الإمارات والبحرين من الدول التي عمدت مبكرا إلى قطع أي نوع من أنواع المساعدات عن السلطة منذ عدة سنوات، فإن السعودية، وتحت إلحاح إدارة ترامب، ستفعل شيئا مماثلا خلال السنة الأخيرة... وهذه الدول، إضافة إلى مصر، تناصب حركة "حماس" عداءً شديدا على خلفية مرجعيتها "الإخوانية"، لكن "حماس"، بخلاف "فتح"، تكيفت مع وضع كهذا، مستندة إلى حواضن إقليمية نشطة تعوضها إلى حد كبيرة عن خسارة حواضنها العربية، فيما "فتح" والسلطة، تحاذران الاقتراب أكثر مما ينبغي من أنقرة وطهران، من دون أن تجدا في المقابل عاصمة عربية فاعلة واحدة، كفيلة بتوفير شبكة دعم وأمان لهما، وزاد "طين فتح بلّة"، أن الجامعة العربية، ستخفق لأول مرة في تاريخها، في دعم وإسناد الموقف الفلسطيني من مسألة جوهرية بحجم "التطبيع" مع إسرائيل...
وفوق هذا وذاك، لا تتوقف عواصم هذه الدول، وأخرى غيرها، في إبداء "النصيحة" أو بالأحرى ممارسة الضغط على السلطة، لعدم الاقدام على إجراء الانتخابات أو حتى إتمام المصالحة مع حركة "حماس"، ودائما على خلفية المرجعية الإخوانية للحركة، حتى أن القاهرة، مدعومة من دول هذا المحور، باتت تضع شروطا قاسية للقبول باستضافة اجتماع لقادة الفلسطينية.
قطر وتركيا تحتفظان بدورهما، بعلاقات "طبيعية" مع طرفي المعادلة الفلسطينية، إلا أنهما لا تخفيان تفضيلهما لـ"حماس" على "فتح"، وسعيهما المتكرر لـ"تعويم" الحركة في قطاع غزة، على أمل "تأهيلها" وتمكينها من مدّ نفوذها وسيطرتها على الضفة الغربية ومختلف مؤسسات السلطة والمنظمة...
في هذا الإطار، يندرج الدور القطري الخاص والمتميز، في رعاية جهود "التهدئة" بين "حماس" وإسرائيل، بل و"تمويل البنية التحتية" لتهدئة طويلة الأجل بين الجانبين، وربما تكون الدوحة قد تشجعت بنجاح وساطتها بين واشنطن وطالبان، لتفعل شيئا مماثلا على المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لا سيما بعد أن تأكدت الأنباء عن "عروض مغرية" تلقتها الحركة، لفتح حوار مع واشنطن تنطلق من على قاعدة "صفقة القرن" و"المدخل الإنساني" لمعالجة أزمة قطاع غزة.
إيران على الضفة الأخرى، لها حسابات من نوع مختلف، فهي تحتفظ بالحد الأدنى من العلاقة "البروتوكولية" مع السلطة و"فتح"، فيما علاقاتها الوطيدة تتركز حول دعم الجناح العسكري والتيار الأكثر تشددا داخل الحركة، وهي تدعم إلى جانبها، جهات فلسطينية أكثر ميلا لـ"خيار المقاومة"، وفي مطلق الأحوال، فإن "حماس" ستستطيع دائما، التعويل على "الخيار الإيراني" لا سيما إن سُدّت في وجهها بقية الخيارات العربية.
لا خيارات سهلة
تنفتح الساحة الفلسطينية على سيناريوهات عدة، تبدأ بأحسنها: استعادة الوحدة، ولا تنتهي بسيناريو الانهيار، انهيار حل الدولتين الذي سيجرف معه السلطة، وتفشي الفوضى أو انطلاق مقاومة شعبية قد تفضي لاندلاع انتفاضة ثالثة، وإذ يصعب من الآن، الجزم بأي من هذه السيناريوهات سيحظى بالأرجحية، فإن "الحياة الواقعية" قد تأتي بسيناريو "هجين"، هو مزيج من أكثر من سيناريو.
أرسل تعليقك